أعلنت منظمة الصحة العالمية استراتيجيتها الجديدة لـ الطب التكميلي والتكاملي للعشر سنوات القادمة، واضعةً هذا المجال ضمن أولويات النظم الصحية الحديثة، انطلاقاً من الانتشار الواسع لاستخدامه عالمياً، ورغبةً في تنظيمه وضبط ممارساته وحماية المرضى من المخاطر المحتملة.

غير أن هذه الاستراتيجية، رغم وجاهتها الصحية والتنظيمية، تثير تساؤلات جوهرية في مجتمعاتنا حول مدى توافق بعض مضامينها مع منظومتنا القِيميّة والعقدية. تبنّي هذه الاستراتيجية في السياق العربي والإسلامي لا يمكن أن يتم بمنطق النقل الحرفي أو التطبيق الآلي، بل يستدعي مقاربة واعية تنطلق من خصوصيتنا الحضارية، ومن منظومتنا القيمية والعقدية، ومن احتياجات نظمنا الصحية. فالتحدي الحقيقي ليس في الاستراتيجية ذاتها، بل في كيفية تطبيقها.

فالطب التكميلي والتكاملي، كما يُطرح في الأدبيات العالمية، ليس حزمة علمية محايدة بالكامل، بل يضم تحت مظلته طيفاً واسعاً من الممارسات التي تتفاوت في مرجعياتها العلمية والفلسفية والعقدية. بعض هذه الممارسات يستند إلى تجارب علاجية قابلة للتقييم العلمي، في حين يرتكز بعضها الآخر على تصورات كونية وفلسفات روحية ذات جذور بوذية أو طاوية أو وثنية، مثل مفاهيم «الطاقة الكونية» و«توازن الشاكرات» و«الوعي الشامل»، وهي مفاهيم لا يمكن التعامل معها بوصفها أدوات صحية محضة دون النظر إلى خلفياتها الفكرية.

من الاستراتيجية العالمية إلى التطبيق المحلي

ومن هنا، فإن تطبيق استراتيجية منظمة الصحة العالمية في مجتمعاتنا دون تمحيص قد يؤدي – من حيث لا نقصد – إلى تمرير مفاهيم تتعارض مع هويتنا، تحت عناوين براقة مثل «الصحة الشمولية» أو «العافية». وفي المقابل، فإن رفض الاستراتيجية أو تجاهلها بالكامل ليس خياراً واقعياً، في ظل الإقبال المتزايد من المرضى على الطب التكميلي، سواء داخل النظام الصحي أو خارجه.

بين الهروب والذوبان: خيار ثالث

في هذا السياق، يبرز تحدٍ حقيقي أمام صناع القرار والمهنيين الصحيين: فالهروب من هذا الملف ورفضه بالكامل ليس حلاً عملياً، لأن الواقع يشير إلى استخدام متزايد للطب التكميلي من قِبل المرضى، سواء أُقرّ رسمياً أم لا. وفي المقابل، فإن الذوبان غير النقدي في النموذج العالمي، وتبنّي كل ما يُطرح تحت عنوان «الطب التكميلي والتكاملي»، ليس خياراً مقبولاً، لما يحمله من مخاطر معرفية وعقدية ومهنية.

الحل يكمن في مسار ثالث أكثر نضجاً، يمكن تسميته بـ «الفرز الاستراتيجي» لممارسات الطب التكميلي والتكاملي.

ما المقصود بالفرز الاستراتيجي؟

إن المطلوب اليوم هو تبنّي نهج عربي-إسلامي لتطبيق استراتيجية منظمة الصحة العالمية، نهج لا يصادم الإطار الدولي، ولا يذوب فيه، بل يتفاعل معه بوعي ونقد وبناء. الفرز الاستراتيجي لا يعني الرفض المسبق، ولا القبول المطلق، بل هو عملية علمية ومنهجية متعددة الأبعاد، تقوم على:

1. الفرز العلمي

تقييم الممارسات بناءً على الدليل العلمي، واعتماد معايير صارمة للسلامة، والفعالية، والتمييز بين ما هو علاجي قابل للاختبار وما هو ادعاء غير مثبت.

2. الفرز القيمي والعقدي

فحص الخلفيات الفلسفية والروحية للممارسات، واستبعاد ما يتعارض مع العقيدة الإسلامية أو يُدخل مفاهيم غير متوافقة مع هوية المجتمع تحت غطاء الصحة والعافية.

3. إعادة التأطير المنهجي

إعادة تقديم بعض الممارسات المقبولة – إن ثبت نفعها علمياً – ضمن إطار صحي علمي، منفصل عن مرجعياته الفلسفية الأصلية، وبما يحفظ وضوح المفاهيم لدى الممارس والمريض على حد سواء.

4. إحياء التراث الطبي الإسلامي بضوابط علمية

الاستفادة من الطب النبوي والتراث الطبي الإسلامي بوصفه جزءاً من الهوية، مع إخضاعه لمناهج البحث العلمي المعاصرة.

5. التكييف السياقي

مواءمة الممارسات المقبولة مع احتياجات النظام الصحي المحلي، وأولوياته، وثقافة المرضى، بدلاً من استنساخ نماذج جاهزة.

هل يكفي التنظيم وحده؟

الرهان على «التنظيم» وحده دون فرز وإعادة هيكلة هو رهان قاصر. فالتنظيم قد يضبط من يمارس، لكنه لا يضبط بالضرورة ما يُمارَس. وقد يمنح شرعية قانونية لممارسات لم تُخضع بعد لتمحيص معرفي أو قيمي عميق.

لذلك، فإن أي مقاربة جادة للطب التكميلي والتكاملي تحتاج إلى منظومة متكاملة تشمل:

  • سياسات وأطر تشريعية واضحة: لا تكتفي بالترخيص، بل تحدد الفلسفة العامة للمجال.
  • مناهج تعليمية محكومة: تدرّس الطب التكميلي من منظور نقدي علمي، لا ترويجي.
  • لجان علمية متعددة التخصصات: تضم أطباء، وباحثين، ومتخصصين في الأخلاقيات، والفقه الطبي.
  • أنظمة تعليم مستمر ومراجعة دورية: تواكب المستجدات، وتراجع الممارسات المعتمدة باستمرار.

نحو نموذج حضاري في الطب التكميلي

إن التحدي الحقيقي ليس في وجود استراتيجية عالمية، بل في قدرتنا على إنتاج نموذج محلي حضاري للتعامل مع الطب التكميلي والتكاملي: نموذج يستفيد من الخبرات العالمية، دون أن يتنازل عن هويته، ويُعلي من شأن الدليل العلمي، دون أن يغفل البعد القِيمي.

بهذا المعنى، يصبح الطب التكميلي ليس ساحة صراع بين «الحداثة» و«الهوية»، بل ميداناً لاختبار قدرتنا على ممارسة السيادة المعرفية، وبناء سياسات صحية تنطلق من الإنسان، لا من التقليد الأعمى، ولا من الرفض الانفعالي.

دعوة مفتوحة لصنّاع القرار والمهنيين

إن تبنّي نهج عربي-إسلامي في تطبيق استراتيجية منظمة الصحة العالمية للطب التكميلي والتكاملي ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة مهنية وأخلاقية. وهو دعوة لصنّاع القرار، والجامعات، والهيئات الصحية، والمهنيين، إلى الانتقال من موقف ردّ الفعل إلى موقع المبادرة، ومن الاستهلاك المعرفي إلى الإنتاج الواعي للسياسات.

بهذا النهج، يمكن للطب التكميلي والتكاملي أن يصبح أداة داعمة للصحة العامة، منسجمة مع العلم، ومتسقة مع الهوية، ومحافظة على كرامة الإنسان وسلامة عقيدته، في آنٍ واحد.