تشكو الكثيرات من الإناث من تفرقة الآباء بينهن وبين إخوانهن الذكور في حياة الأب، كأن يخصص للذكور مسكنا دونهن، فإذا ما طلقت أو شعرت بضيق لا تجد لها المأوى، أو يحابون الذكر ويفضلونه على اعتبار أنه رجل، ولا بد من إعداده والاهتمام به، أو أن يهب الأب الذكور أشياء في حياته بخلاف البنات.. وغيرها من السلبيات التي من شأنها أن توقع البغضاء والحقد و الحسد في نفوس الفتيات. فما حدود العدل بين الأبناء إذن؟ وهل يجب أن يساوي الأب في عطيته بين الذكور والإناث حال حياته؟ أم أن هناك مسوغات لتخصيص أحدهم بشيء دون الآخر؟ وهل يعد تجهيز الأنثى للزواج عطية من الأب أم هي من النفقة الواجبة؟
أسئلة كثيرة لا بد للآباء والأمهات معرفتها حتى لا يقع أحدهم في ظلم أبنائه ظانًا أنه يحقق العدل.
في البداية يؤكد الشيخ عبد الله الخطيب من علماء الأزهر الشريف أن التفريق بين الرجل والمرأة كان معمولا به في الجاهلية التي عافانا الله منها، فجاء الإسلام ووضع لكل من المرأة والرجل حقوقا، فمن حق كل منهم أن يستوفي حقه؛ فإذا عدنا الى حرمان المرأة من ميراثها وحقوقها التي شرعها الله لها فقد وقعنا فيما حرم الله علينا قال تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } [النساء:7].
ومن ثم لا ينبغي علينا أبدا أن نتعدى حدود الله تحت دعوى أن البنت ستتزوج ولا داعي لأن تأخذ نصيبها في السكن كالولد، ثم لنفترض أن زوجها طلقها أليس من الأكرم أن يكون لها سكن ملك لها تأوي إليه وتعيش فيه كريمة معززة، ولا تتضايق هنا وهناك، هذه تقبلها وتلك ترفضها.
وهنا يؤكد الخطيب أنه من الواجب على من يبني بناء سواء أكان كبيرا أو صغيرا أو يعطي عطية كثيرة أو قليلة؛ يجب أن يفعل ذلك للجميع، سواء أكان ذكرا أم أنثى، فعن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان عند النبي ﷺ فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخده وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال الرسول ﷺ: “ألا سويت بينهما. وكما قال النبي ﷺ: “سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء”.
ثم يشدد الخطيب على أن الأب يجب عليه أن يوصي وصيته من بند واحد فقط، فيقول فيها: توزع تركتي -ثم يسميها ويعرف بها- على جميع الورثة من أبناء وبنات وزوجة كما أراد الله عز وجل وشرع.
أما غير هذا فالعاقبة شديدة والبلاء خطير والمسئولية بين يدي الله عظيمة؛ حيث لا واسطة بين العبد وربه وهو سائله: لِمَ تجاوزت الحدود؟
نفقة البنت تنتهي بزواجها
هكذا يؤكد الدكتور أحمد طه ريان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، حيث يرى أن نفقة الأب على ابنته تنتهي بعد زواجها، لأن هناك من سيعولها وهو زوجها، أما الولد فعلى أساس أنه هو الذي سيعول من يتزوجها فإن على الأب مساندته في إيجاد السكن على اعتبار أن السكن مسئولية الابن وليس له من يعوله بخلاف البنت.
وهنا يشير د. ريان إلى أن بناء سكن للبنت مثل الولد أو خصها بعطية مثله يعود لاستطاعة الأب، فإذا كانت سعة الأب تسمح ببناء سكن لجميع الأبناء فليفعل للذكور والإناث، أما إذا كان ضيق ذات اليد لا يجعله يفعل ذلك إلا مع الذكور فقط فلا غبار على الأب في ذلك، ولكن يحاول الأب أن يكون هناك سكن للبنت تجده وتستريح فيه عند الضيق.
ويضيف ريان أن المسلم الحق الحريص على مرضاة الله وثوابه لا يفرق في حبه وعطفه بين أبنائه، ولا يؤثر ببره أحدا على أحد، وبصفة خاصة لا يؤثر الذكر على الأنثى عملا بقول رسول الله ﷺ: “من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة”. فالعدل بين الأبناء يترك أحسن الأثر في نفوسهم، ويطهر قلوبهم ويصفي الحب والمودة بينهم، وينزع من صدورهم الغل والحقد والحسد.
الرعاية متساوية
ومن جانبه يوضح الدكتور صلاح الدين زيدان أستاذ الفقه بجامعة الأزهر أن المبدأ العام عدم التفرقة في الحقوق والواجبات؛ فحقوق البنت والولد متساوية تماما في المأكل والمشرب والرعاية الاجتماعية وهذه حقوق ثابتة لجميع الأبناء على حد سواء في حياة الأب، فعن النعمان بن البشير رضي الله عنهما قال: “وهبني أبى هِبَة فقالت أمي -عمرة بنت رواحة رضي الله عنها-: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله ﷺ. فأتى رسولَ الله ﷺ فقال: “يا رسول الله، إن أم هذا أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها. فقال ﷺ: يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم. قال: كلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا. قال: فأرجعه”. وفي رواية: ” اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” (صحيح مسلم).
ثم تأتي نفقات كل من الولد والبنت عند زواجهما فالبنت لها أن يزوجها أبوها ويجهزها، أما مسئولية السكن فتقع على الزوج، لكن الولد عليه إحضار السكن، ومن ثم يسهم الأب مع ابنه في إحضاره، لأن الولد ملزم به أما البنت فهي غير ملزمة.
ولكن البعض يبني مسكنا فيعطي للذكور دون مقابل، أما الإناث فيأخذ منهن أجرة. وفي هذا الشأن يرى الدكتور صلاح زيدان أن السكن على الرجل وليس على المرأة، ومن ثم إذا أراد الأب أن يأخذ أجرا من ابنته فليفعل ولا شيء عليه.
المساواة هي الأصل
أما الدكتور أحمد العسال أستاذ الشريعة ومستشار الجامعة الإسلامية بباكستان فيرى ضرورة مساواة الأب بين أبنائه الذكور والإناث في حياته في كل شيء، قال الرسول ﷺ: “ساووا بين أبنائكم في القُبَل”. إلى جانب أن يراعي الأب الظروف الاجتماعية للفتاة وما قد تستقر عليه حياة البنت في المستقبل.
فالولد يجاهد ويكافح وليس في قدرة البنت أن تقوم بهذا، فالقضية ليست قضية ميراث ولكنها قضية حياة لا بد فيها من الاطمئنان على الفتاة وسترها، لأنها أكثر حاجة لهذا من الولد.
ففي الحياة لا بد من العدل والمساواة، أما في تقسيم الميراث فلا يحتاج لجدل ونقاش: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}” [النساء:11].
كما يؤكد الدكتور العسال على ضرورة أن يكون الأب على قناعة تامة بالعدل بين أبنائه، ومن ثم ينبغي على الأب أن يفعل الأقرب والأفضل إلى تحقيق شرع الله، وأن يقوم بهذا إرضاء لله قبل كل شيء “فالبر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”.
استفزاز لمشاعر الحقد
وهذا بعد نفسي له آثاره الاجتماعية تشدد عليه الدكتورة سهير عبد العزيز عميدة كلية الدراسات الإنسانية السابقة بجامعة الأزهر؛ حيث ترى أن في هذا الأمر استثارة لمشاعر الغيرة والحقد عند الأبناء؛ ولهذا فلا بد من التنشئة التي تراعي عدم التفرقة بين الذكر والأنثى ، وفي الوقت نفسه ترى أنه إذا كان هناك ابن أقل من إخوته بسبب مرض أو عجز أو صغر فمن حق الأب أن يعطيه ولكن دون مغالاة ولا استفزاز لمشاعر إخوته. غير أنها تنبه على أن مساندة الأب للذكور من أبنائه من الممكن أن تأتي في إطار مساعدته على الزواج والاستقرار، وعلى أساس أن البنت سوف تتزوج ويكون لها سكن. وهنا توضح أنه يجب على الأب أن يعوض هذه الابنة عن ذلك لأنه لا يدري من أشد نفعًا له؛ فالآية القرآنية تقول: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } [النساء:11].
وقد توافق الأخوات على عطية الأب للذكر ويرضين بذلك حبا وشفقة على هذا الأخ، أو افتخارا به، خاصة إذا كان يحنو عليهن، وهذا لا حرج فيه ما دام نابعًا عن رضا منهن، ولكن إذا لم يرضين وجب إعطاؤهن مثلما أعطى الأب الذكور