لقد حمل الإسلام مُتَّبعيه على التزام جانب العدل في كل الأمور، وفيما يلي تفصيل لمجالات العدل في الإسلام:
1- العدل في الحكم
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء: 58].
والإسلام حين دعا إلى الفضل وآثره في كثير من الأمور على العدل: ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237]؛ إنما دعا إلى الفضل حين يكون الأمر بين شخصين – فئتين… كما بين دائن ومدين: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].
أو بين بائع ومشترٍ: «رحمَ الله امرءاً سَمْحَاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، سَمْحاً إذا قَضَى، سمحاً إذا اقتضى» ([1]).
أما حين يكون الأمر فيه جانب ثالث يحكم بين فريقين – شخصين – أسرتين، فعليه العدل فحسب ليأخذ العدل مجراه في الحكم وغيره: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء: 135]. والإمام العادل أول الذين يظلهم الله تعالى يوم الدين في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2- العدل في القضاء
دون تأثر بعاطفة صداقة أو محبة أو قرابة مع الترفع عن قبول أي مؤثر مادي أو معنوي، والهدية للقاضي غالباً ما تكون رشوة: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]. أي: ولو كان المبطل في الخصومة قريباً، فاحكموا بالحق لصاحب الحق.
وعلى القاضي ليكون عادلاً منصفاً أن لا يقضي إلا وهو في حال نفسية مرضية: «لا يقض القاضي وهو غضبان» ([2]).
حكوا أن قاضياً في عهد الخليفة المهدي قدمت له هدية فرفضها وردَّها، وبعد أيام قدم صاحب الهدية دعوى إلى القاضي، فاستقال القاضي من وظيفته واعتزل القضاء، فعاتبه المهدي قائلاً: نحن نثق بك وبعدلكَ وقد رددتَ الهدية، فلم اعتزلت القضاء؟! فأجابه: يا أميرَ المؤمنين! إن القضاءَ مستقل وهو أعلى سلطة في الأمة، فالقاضي قد يحكم على الأمير، ولا يكون القاضي جديراً بالقضاء إلا إذا كان من الهيبة والوقار والقوة بحيث لا يتجرأ أحدٌ أن يُقدِّم له هدية، أو يَطمع منه بحيف أو انحراف عن العدل والحق، أما وقد تجرأ أحدُهم وتقدَّم إلي بدعوى بعد أن قدَّمَ هديةً فهذا يعني أنني فقدتُ هيبةَ القاضي ولم أعد صالحاً للقضاء:
أولئكَ آبائي فجئْنِي بمثلِهم ... إذا جمعتَنا يا صديقي المَجَامِع
3- العدل مع الخصم
﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]. أي: لا يحملنكم بغض أحد على ظلمه بل اعدلوا مع البغيض كما تعدلون مع الحبيب، وتلك شارة التقوى ودليل الإخلاص والوفاء.
4- العدل بين الزوجات
في الأمور المادية، كالمبيت، والنفقة في المأكل والملبس والمسكن و… فإن لم يعدل في ذلك لم يجزْ له التعدد: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3].
أما العدل القلبيُّ في المحبة والمودة فذلك مما لا يملك الإنسان زِمامَه، لأنه جُبل على تفضيل الأجمل والأكمل والأفضل ولذا قال ﷺ: «اللهمَّ هذا قَسْمِي فيما أملكُ فلا تؤاخذني فيما لا أملكُ وتملكُ» ([3]).
ولذا فعلى الزوج أن يحاول وسعه العدل في ذلك وأن يُسدِّدَ ويقاربَ وأن يخفِي حبه المتزايد لإحدى زوجاته عن الأخريات، وأن لا يظلم إحداهن في حقها بالمبيت عندها في يومها المحسوب لها: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: 129]. وقد هدد الرسول ﷺ من يظلم إحدى زوجاته أن يفضحه الله يوم القيامة أمام الناس، فيبعثه وأحد شقيه مائل.
5- العدل بين الأولاد في العطية
ففي الحديث: «سَوُّوا بين أولادِكم في العطيَّة، ولا تُشهدوني على جَوْر – ظلم – ألا تحبُّون أن يكونوا لكم في البرِّ سَواء فكونُوا لهم في البِرِّ سواء» ([4]). ويجب الانتباه إلى أن العطية غير النفقة، فالتسوية في النفقة غير متصورة لأن الولد الكبير يتطلب نفقة أكثر من أخيه الصغير، فهذا لا بأس فيه ولا حرج.
6- العدل في الإرث
وهو أن توزع التركة كما أمرَ الله تعالى، وأن لا يُحرم أحد من حقه في الإرث فقد جعلَ الله ذلك: ﴿نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ [النساء: 7]. تلك حدود الله بيَّنها في آيات المواريث، ثم قال في آخرها مهدداً من يظلم أو يحرم وارثاً حقه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14].
7- العدل في الوزن
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85]. وهذا نداء من شعيب عليه السلام لقومه المطففين الظالمين الكافرين، فأبوا وأصروا على ما هم عليه: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [الأعراف: 78]. وهذا تحقيق لوعيد الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 1-6].
8- العدل في تحقيق المطالب المادية والمعنوية
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]. «إن لجسدك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً…» ([5]). والجمع بين مصالح الدين والدنيا والآخرة أمر مطلوب وميسور لمن آمن وعقل واهتدى.
9- العدل في المعاملة
ففي الإحسان: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60].
أرى المعروف عند الحر ديناً … وعندَ النذل مقبحةً وذما
كقطرِ الغيثِ في الأصدافِ دُرٌّ … وفي حَلقِ الأفاعي صَارَ سُمّا
وفي الإساءة: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]. أي: عن طريق القضاء لتسلم العواقب، ويمنع الثأر والانتقام المتواصل، والفضل والعفو والتسامح أولى، ولا سيما مع الحبيب والقريب والصديق: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40]. وفي ذلك دعوة إلى العفو والفضل والتسامح، وإلا فلابد من المثلية في العقاب عن طريق القضاء العادل، فإن تعذرت المثلية أو كان في تحقيقها خطر محقق يتجاوز المثلية، صار الصلح في إطار التسامح مع التعويض وإصلاح ما فسد واجباً.
10- عدل العلماء مع العامة
وذلك بأن يحملوهم عند الشدائد على الرخص: «إن اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رخصُه كما يَكرَه أن تُؤتى مَعَاصِيه» ([6]). وعند الراحة على العزائم، لئلا ينفروهم من الدين قال ﷺ: «يسروا ولا تعسروا، بشروا وسَكِّنوا ولا تنفِّروا» ([7]). ولما رأى رجلاً صائماً في سفر شاق يُعاني فيه العطش الشديد والألم الواضح غير المحتمل، أمرَه بالفطر وقال: «ليس من البر الصِّيام في السفر» ([8]) أي: حين يكون السفر شاقاً مضنياً. وأعجب ما في الأمر أن ترى من يفتي للناس بالعزائم ويلتمس لنفسه الرخص دائماً؟!.
11- عدل في اللغة
فالجمع المذكر السالم يُرفع بالواو ويُنصب ويُجرُّ بالياء: أحسن المتفوقون، كافأت المتفوقين، أعجبت بالمتفوقين. والجمع المؤنث السالم يُرفع بالضمة، لأنها تعادل الواو وتُناسبها: أحسنت المتفوقات، ويجر بالكسرة: سررتُ من المتفوقات، والكسرة أصلٌ في الجر، ولكنه يُنصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة: كافأتُ المتفوقاتِ، مع أن الفتحة هي الأصل في النصب، ولكننا عدلنا عن الفتحة إلى الكسرة لأن الكسرة تُناسب الياء التي هي علامة النصب في جمع المذكر السالم، ليحصل التعادلُ والتناسبُ بين الجمعين في الإعراب.
ولو ذهبتُ أضربُ لك الأمثلة في ذلك، لرأيتَ من أسرار اللغة العربية وجمالها واعتدالها وعدالتها ما يفوق الوصف، ويرشدك إلى سرِّ اختيار الله تعالى لها، لتكون لغة أشرف وأعظم وأسمى وأكمل كتاب سماوي عرفته البشرية، وألزمَ به عباده جميعاً إلى يوم الدين: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2].
ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم يتحدَّث على لسان اللغة العربية:
وسعت كتاب الله لفظاً وحكمةً … وما ضقت عن آي به وعظاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ … فهل سألُوا الغوَّاص عن صَدَفاتي؟
12- عدل في التجويد
أي: تحسين اللفظ في نطق القرآن الكريم، واللغة العربية على أحسن وأجمل ما يُرام نطقاً وتلاوة. فيمدُّ حرفُ العلَّة – وهو ضعيف – مع الهمزة، أو الحرف المشدَّد، لقوتهما كما في: السماء، الطاقة؛ ليقوى الضَّعيف بالمدِّ، فيعادل القويَ، ويُسمَّى الأوَّلُ مدَّاً مُتَّصلاً واجباً، والثاني مدَّاً لازماً كلميّاً مُثقَّلاً.
13- عدل في اللفظ والحروف
فاللام القمرية تدخل على أربعة عشر حرفاً. واللام الشمسية تدخلُ على أربعة عشر حرفاً أخرى، هي بقية الحروف العربية.
14- العدل في التوزيع الإلهي
لقد رصد الله تعالى في الأرض من الخيرات والمعادن والكنوز والمياه ما يسع الخلقَ جميعاً ويكفيهم، ووزَّع ذلك في الأرض ليتعارفَ الخلقُ ويتآلفوا ويتعاونوا على البرِّ والتقوى.
وأخيراً ألا يجدرُ بالنَّاس جميعاً، وبالمؤمنينَ خاصة، وهم يرون العدالة الإلهية في كل شيء، أن يُقيموا حياتهم على العدل والعدالة والتوازن، لينعموا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم؟.
