بينما النبي في مسجده والصحابة من حوله إذ دخل عليه ثلاثة رجال؛ وجد أحدهم مكانا في المجلس فجلس، و استحيا الثاني من الذهاب لما لم يجد له مكانا فجلس وراء الجالسين، أما الثالث فذهب تاركا هذا المجلس المبارك  قال النبي :”ألا أُخْبرُكُم عنِ النَّفَرِ الثلاثةِ؟ أمَّا أحدُهم فأَوَى إِلى اللهِ، فآواهُ الله، وأمَّا الآخَرُ فاستَحيْا، فاستَحيْا اللهُ منْهُ، وأمَّا الآخَرُ فأَعرَضَ، فأَعرَضَ اللهُ عنهُ[1].

هذه أحوال الخلق أمام المنح الربانية؛ منهم من يقبلها ويقبل عليها ويريد أن يأخذ منها ما يستطيع بل فوق ما يستطيع، ومنهم من يعطيها ظهره فله انشغالاته وله أهدافه التي ليس من بينها الاستفادة من هذه المنح ، ومنهم من ينظر إليها بعين وإلى الدنيا بالعين الأخرى ينشغل بالمنعم سبحانه وتعالى حينا وبالنعم أحيانا.

يتيح الله تعالى لعبادة الفرصة بعد الفرصة لكي يتقربوا منه ويزيدوا من رصيد حسناتهم، فمنهم من يجتهد مقتديا بالنبي في الانتفاع من كل فرصة ترفع من درجاته «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»[2].

وقد كان الاجتهاد صفة دائمة للنبي في كل أحواله؛ فإذا صلى صلاة التطوع كان كما وصفه الواصف:”يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ[3]، يجتهد في القيام حتى تتشقق قدماه، وإذا حفر المسلمون الخندق – دفاعا عن المدينة – اجتهد في حمل التراب حتى” وَارَى بَيَاضَ بَطْنِهِ أَوْ قَالَ: شَعْرَهُ[4] وهذا من شدة اجتهاده وانهماكه في العمل، وعندما سمع الناس صوتا مفزعا خرجوا  في اتجاه الصوت فوجدوا النبي قد ذهب واطمأن وعاد ليطمئنهم بقوله: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا»[5]ومن اجتهاده في الذهاب سريعا ذهب هو على فرس ليس عليه سرج والسيف في عنقه.

كان الاجتهاد من صفاته ، وينبغي أن يكون أبرز صفة لمن اتخذوه أسوة حسنة ويريدون أن يشربوا من حوضه الشريف شربة لا يظمأوا بعدها أبدا، لكن النفس كما تنشط للعمل يصيبها الكسل والفتور والإهمال، وقد كان النبي يستعيذ بالله تعالى من العجز والكسل فهما من شر الأمراض التي تصيب النفس والبدن، وأحدهما يوصل للآخر فنهاية الكسل عجز عن القيام بما يجب من أعمال بها قوام الحياة؛إذ الكسل سبب للكثير من الأمراض، وأوسع الأبواب التي يدخل منها الفقر وما يصحبه من ذلة وحاجة تستدعي مد الأيدي للناس، وينتج عنه مصيبة أخرى هي التسويف حتى تتراكم الأعمال ومن ثم تترك كلها، ما الذي يجعلنا نتغلب على الكسل والعجز والإهمال والتسويف والعقبات التي تواجهنا ؟؟:

1- إدراك أن ما نقدمه من عمل صالح يرضي الله وينفع الناس، سواء أكان من فروض الكفايات أو من فروض الأعيان، وسواء كان عبادة لله تعالى أو عمارة للكون، كل ما نقدمه من هذه الأعمال نقصد بها وجه الكريم سبحانه يضاعف الله تعالى لنا الحسنات عليها،{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89]، بل “مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ”[6].

ويأخذ الإنسان نصيبه من هذا العطاء الإلهي في الدنيا والآخرة” إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يَعْمَلُهَا يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ”[7]

2- التحفيز الذاتي: في ميدان السباق إلى ما يرضي الله تعالى لا يقول المسلم :”كفاني ما قدمت فالآخرين لم يقدموا شيئا أو قدموا أقل مما قدمت”، فإن النفس التي تتطلع إلى المعالي لا تقنع بما دون النجوم ومثلها الأعلى الأنبياء والصالحون، وطموحها نيل الفردوس الأعلى. وإذا كان أصحاب الهمم العالية لا يستريحون إذا سبقهم أحدا في الدنيا ،فإن النفوس المتعلقة بالله تعالى تسعى لتكون في مقدمة الصفوف مهما كلفها من جهد.

يعلمنا النبي أن ننجز أعمالنا بنفس الروح التي نبدأها بها، انظر إلى إقبال الناس على العبادة في بداية الشهر وانظر إلى تناقص هذه الأعداد في منتصفه، بل انظر إلى الحماس الذي نبدأ به الأعمال ثم الفتور الذي يصيبنا فتتوقف الأعمال في منتصف الطريق أو بعد خطوات قلائل حسب جهد الساعين، لتضيع كل الجهود والنفقات والآمال التي عقدت على انتهاء هذا العمل، يصيبنا الفتور ونبدأ ولا ننتهي مرة واثنتين وثلاث حتى نشعر بالعجز  ونفقد الثقة ويملؤنا الإحباط.

اجتهاد في أيام قلائل يزول تعبه وتبقى آثاره؛ بركة في البدن، وزيادة في رصيد الحسنات، ومحبة يودعها الله تعالى في قلوب الخلق ،ورضوان من الله أكبر ذلك الفوز العظيم.

ولم يكن النبي  ليقف بالاجتهاد عن حدود نفسه، بل كان يأمر أهله كذلك بالاجتهاد في العبادة أيام العشر وغيرها، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»[8] ،كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَذَرْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ”[9] اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجَرِ – يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ – رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الآخِرَةِ»[10] هذه الأحاديث تدلنا على ما كان منه من حرص على غرس الجد في أهله وعدم الاعتماد على كونهم من بيت النبوة.

 ومن ألوان بذل الجهد مع الأهل، الصبر على دعوتهم للصلاة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] لا تدعوهم مرة ثم تتركهم، وإذا أتعبوك بالتكاسل عن القيام للصلاة أو تركها لا تفرغ غضبك فيهم بأن تشتمهم أو تضربهم ثم تظن أنك قد فعلت ما عليك ،فإن العبادات التي تتكرر؛ تحتاج إلى جهد لأدائها في وقتها، وجهد في متابعة الأهل والولد ترغيبا وترهيبا وبذل للهدايا، كل هذه الجهود المخلصة تتم قياما بحق الأسرة على راعيها فكلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته، وتتم لوقايتهم من أكبر خطر يمكن أن يتعرضوا له وهو غضب الله تعالى،{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

إن الجد عادة تنشأ مع بداية الحياة، يغرسها الوالدان في نفوس أبنائهم ويغرسها المجتمع ويكافء عليها لينتفع بجهد المخلصين.

ومع حث الإسلام على بذل الجهد إلا أنه يراعي طاقة البدن والروح، فالإقبال على الخير بهمة ونشاط قد يجعل الإنسان لا يشعر بنفسه ،فيحملها فوق طاقتها رغبة في الوصول إلى الدرجات الرفيعة، ولمحو ما مضى من أخطاء الماضي، ونبينا لما رأى من يكلف نفسه فوق طاقتها فيصلي حتى يعجز عن الصلاة قائما فيمد حبلا بين عمودين ليتعلق به قال :”لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ[11] وليجعل المسلم من أوقات راحته ما يستعين به على أوقات العمل عبادة لله تعالى وعمارة للكون.

إن رمضان يمضي كما يمضي شعبان وكما يمضي العمر كله، ويبقى منه ما وضعه الإنسان في ميزان أعماله من حسنات أو سيئات، وينبغي أن يبقى منه أثر في نفوسنا  جدا واجتهادا في الطاعات،وفي طلب العلم ،وفي تعمير الدنيا والانتفاع من النعم التي سخرها الله لنا ،وفي التفكر في أنفسنا وفي الكون من حولنا، وفي إصلاح أنفسنا وأهلينا، وفي التخلق بالأخلاق الحميدة، لنجد ثمار ذلك في الدنيا رفعة وفي الآخرة يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا.


[1] الصحيحين

[2] صحيح مسلم

[3] صحيح البخاري

[4] مسند أبي داود

[5] صحيح البخاري

[6] صحيح مسلم

[7] مسند عبد بن حميد

[8] الصحيحين واللفظ لمسلم

[9] مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر الكتاب للمروزي اختصره أحمد بن علي المقريزي

[10] صحيح البخاري

[11] الصحيحين واللفظ لمسلم