يعرفنا الإسلام من خلال نصوص الكتاب والسنة على حقيقة
التقوى والبر والإحسان والعلاقات التي تربط بينها، والثمرة التي يجتنيها المسلم حين يحسن فهم هذه الحقائق وآثارها على حياته، في معاملته مع ربه سبحانه ومعرفته إياه جل ذكره.
التقوى
التقوى هي فعل الطاعات وترك المعاصي، وتتحقق بما يقي من العذاب، والذي يقي من العذاب هو فعل الواجبات وترك المحرمات. والتقوى تثمر العمل الصالح حين يقوم المرء بما أمر به الله تعالى ويترك ما نهى عنه، بشرط الإخلاص لله تعالى والمتابعة في كل ذلك لما جاء به الرسول
ﷺ[1]. وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم أثر التقوى في: تيسير الأمور، وجلب الرزق، ومغفرة الذنوب، والنجاة من الفتن، ومعرفة الحق من الباطل. من ذلك قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29] وقوله جل ثناؤه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2-3]
البر
البر هو الحد الزائد على التقوى، لقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] قال أبو جعفر الطبري: فتأويله: “لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون، وتتصدقوا مما تحبون، وتنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوون من أموالكم”
[2]. وروي عن النبي
ﷺ أنه قال: “
إن في المال لحق سوى الزكاة“
[3]. وروى الإمام الطبري في تفسيره عن عطاء أنه جاء أعرابي إلى النبي
ﷺ فقال له: إن لي إبلا فهل علي فيها حق بعد الصدقة؟ قال: “
نعم“، قال ماذا؟ قال: “
عارية الدلو،وطروق الفحل، والحلب“
[4]. ولن يصل المؤمنون إلى مرتبة البر في باب الإنفاق حتى ينفقوا مما يحبون، مع أنهم إذا لم ينفقوا مما يحبون، وأدوا ما فرض الله تعالى عليهم فقد نالوا التقوى. ولما كان لكل إنسان في أمواله كرائم أثيرة عنده، أمر رسول الله
ﷺ جباة الزكاة بأن يتجنبوا كرائم أموال الناس، إذ الواجب يتحقق بأخذ غيرها. لكن باذل الزكاة إذا أراد أن ينال البر قدّم ما يحب من كرائم أمواله، مقتحما مرضاة ربه سبحانه وتعالى)
[5]العلاقة بين البر والتقوى
نلاحظ هذه العلاقة في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177] لقد بدأت الآية الكريمة بالحديث عن حقيقة البر، ثم ذيلت بالحديث عن التقوى، وذلك لبيان أنه لن يقوم أحد بفعل أعمال البر الجليلة حتى يتحقق قبل ذلك بمرتبة التقوى، وهي شرط رئيس للبر، ومرحلة سابقة له ومتقدمة عليه. فمن لم يتق الله تعالى في عمله بفعل ما أمر الله تعالى به وترك ما نهى عنه، لم يقبل الله جل ذكره منه الأعمال الزائدة على الواجب من أعمال البر؛ فالمرتبة الدنيا شرط للارتقاء إلى المرتبة العليا. وبيانا لذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189] ومعنى الآية الكريمة أن إتيان المحرم بالحج أو العمرة البيوت من ظهورها ليس من البر أصلا، فهي بدعة لا أساس لها في الدين، وزيادة على الواجب غير مشروعة. ثم بين تقدست أسماؤه أن البر المقبول عنده، والذي يكون بفعل خيرات وعبادات زائدات على الواجب هو البر الذي يكون من المتقي؛ فمن كان متحققا بمرتبة التقوى في العمل قلبت منه زوائد العبادات والطاعات المشروعة ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، واعتبرت له في صحيفة أعمال البر، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 189]. أي: ولكن البر المقبول عند الله تعالى هو بر من اتقى .
[6] وعندما يأتي ذكر البر والتقوى في سياق واحد، كما في قوله تعالى﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، فمن العلماء من فسر البر في الآية الكريمة بالأمر، والتقوى بالنهي
[7]. ومنهم من قال: البر: فعل الخيرات، والتقوى: ترك المنكرات
[8]. ومنهم من تأول التقوى برضا الله تعالى، والبر برضا الناس
[9]. وللتأكيد على أهمية التقوى كقاعدة لبناء الأعمال التي تثمر بعد ذلك ثمرات البر، ذيلت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] أي: لن يتحقق لكم البر إلا بعد التحقق بمرتبة التقوى في نوع العمل. على أن البر في الحقيقة درجة أعلى من التقوى؛ فهو التوسع في أعمال الخير فوق الواجبات حتى بدايات
مرتبة الإحسان. فنوافل الصلاة فوق أداء الصلوات المفروضة هي من مرتبة البر، وبذل الصدقات فوق أداء الزكاة الواجبة هي من مرتبة البر. ولفضل مرتبة البر على التقوى جاء في الكتاب العزيز تقديم البر على التقوى
[10]. وفي هذا السياق قال
ابن القيم: “البر والتقوى كلاهما يتضمن أجزاء من الإيمان وأركان من الإسلام. لكن ما يخص منها القلب يسمى بالتقوى، وما يخص الجوارح يسمى البر؛ فالتقوى بر القلب، والبر تقوى الجوارح… وشأن البر والتقوى كشأن الإيمان والإسلام، كل منها يدخل في مسمى الآخر إما تضمنا أو لزوما، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدخل على أنه لا يدخل فيه”
[11]. وعليه، فإذا ذكر التقوى أو البر تضمن أحدهما معنى الآخر، وإذا ذكرا معا اختص كل منهما بمعنى خاص له.
العلاقة بين التقوى والبر والإثم والعدوان
العلاقة بين التقوى والبر والإثم والعدوان علاقة تنافر وتضاد كما أن البر لا يفسر بالتقوى، فإن العدوان لا يفسر بالإثم؛ فالإثم كما جاء في الحديث الشريف: “والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”
[12]. والعدوان: ظلم الناس وانتهاك حرماتهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم واستحلال فروجهم والاستطالة على أعراضهم. وقد قابل الله تعالى التقوى بالإثم في قوله عز من قائل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة: 206] وقابل جل ثناؤه الأبرار بالفجار للتناظر بين مرتبتيهما؛ فالفجار هم أهل العدوان المنبعثون في فعل الشرور فوق مستوى العصاة الكفرة العاديين، كما جاء في سورة
الانفطار: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13-14]
[13] وللتضاد الحاصل بين التقوى والإثم، فإن التقوى هي فعل الواجبات وترك المحرمات، والإثم هو فعل القبيح وترك الواجب. وللتضاد الحاصل بين البر والعدوان، فإن البر زيادة على التقوى بأفعال الخير ومراضي الله تعالى، والعدوان زيادة على الإثم لأنه يتعدى أفعال الشخص السيئة إلى ظلم الناس، وهو أشنع من الإثم وفعل القبيح.
الإحسان
الإحسان هو الإتقان، والإتيان بالأعمال على الوجه الأليق والأحسن. والإحسان شرعا تتعدد معانيه بتعدد مجالاته، فيشمل: – الإحسان في العبادة بأدائها على نحو ما شرع الله جل ذكره وأمر. – ويشمل أعمال القلوب بإخلاص النية وصدق المراقبة. – ويشمل الإحسان للوالدين بطاعتهما والبر بهما. – ويشمل إتقان الصنعة وأداؤها كما يجب)
[14]. ومن التنبيه بمكان أن الإحسان ينشأ وينبع من إسلام المرء وجهه لله تعالى، بأداء ما فرض الله تعالى من فرائض وواجبات، والإتيان بها على وجه الكمال والإتقان دونما خلل أو نقصان، وترك المحرمات التي نهى الله جل ثناؤه عنها ظاهرا أو باطنا ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [لقمان: 22]. وإذا بلغ المؤمن درجة عليا في المراقبة لله تقدست أسماؤه والحضور معه، وإتقان العبادة وإكمالها بالإتيان بالمستحبات والمندوبات والسنن على الوجه الأكمل، والإتيان بكل عمل أو فعل أو قول يحبه الله تعالى ويرضاه، فقد بلغ تلك الدرجة في حديث جبريل عليه السلام وهي: “أن تعبد الله كأنك تراه”
[15]. والمؤمنون بالإضافة إلى أدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات، وفعلهم الخيرات، جعلوا نصيبا من ليلهم لصلاة التهجد والقيام، والاستغفار بالأسحار، والإحسان إلى الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل، فوصلوا بذلك إلى درجة الإحسان: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: 15-19]
منزلة وجزاء الإحسان
وعد الله تبارك وتعالى المحسنين من عباده على إحسانهم أن يجزيهم على طاعتهم إياه الجنة، وأن يبيض وجوههم، وأن يعطيهم غرفا من اللألئ، وأن يزيدهم غفرانا ورضوانا، وأن يكرمهم بالنظر إلى وجهه الكريم في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، كل ذلك من زيادات عطاء الله تعالى إياهم على الحسنى، وهي الزيادة التي جعل الله تعالى لأهل جناته: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] على أن مرتبة الإحسان هي المرتبة الأعلى؛ فهي فوق مرتبة التقوى ومرتبة البر، وقد عرف النبي
ﷺ الإحسان في حديث جبريل عليه السلام ب “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”
[16]. وهذا مناسب لجعل الزيادة وهي النظر إلى وجه الله تعالى في الجنة جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه سبحانه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكأن جزاء ذلك: النظر إلى وجه الله تعالى عيانا في الآخرة
[17]. وقد وصف الله تقدست أسماؤه رسله الكرام بأنهم محسنون، أي جامعون لمرتبة التقوى، ومرتبة البر، وترقوا إلى مرتبة الإحسان. وهذه المنزلة هي لب الإيمان وروحه وكماله، وهي تعني كمال الحضور مع الله تعالى ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه والإخلاص له
[18]. وهي منزلة المقربين في الجنة، وهي درجة عليا فوق درجات المتقين والأبرار لقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:46 – 60]. وتحسن الإشارة إلى أن العلاقة بين البر والإحسان نلاحظها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) ﴾ [المطففين: 22-28] أي : إن الأبرارفي الجنة يشربون من الرحيق المختوم ومزاجه من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه ،بينما يشربه المقربون الذين بلغوا درجات الإحسان صرفا
[19]. ونعيم المقربين فوق نعيم أصحاب اليمين وهم أهل مرتبة التقوى، كما بين سبحانه وتعالى ذلك في
سورة الواقعة: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: 8-11] لكن المقربون درجات، فدرجاتهم تبدأ بأعمال الأبرار، وتنتهي بأعلى درجات الإحسان، نسأل الله جل ذكره أن يبلغنا درجات الإحسان، إنه سميع مجيب.