ترددت كثيرا قبل أن أبدأ في تناول موضوع العمل الخيري في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي تحديدا لعدة أسباب، أهمها: أنني اعتبر نفسي أحد الذي عملوا وتطوعوا في هذا القطاع الهام لسنوات طويلة ومازلت أتشرف بالعمل فيه. الأمر الآخر، أهمية هذا القطاع الخيري الخليجي في دعم المشاريع التنموية والإغاثية في مناطق عديدة من العالم، وخاصة مناطق الكوارث والحروب، وتناولي لهذا الموضوع، قد يتم تفسيره على انه نقد من الداخل.

وثالثا: أنني تربطني علاقة شخصية طيبة مع العديد من قيادات العمل الخيري في دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك في الدول العربية والإسلامية الأخرى، بل في العديد من دول العالم، وذلك لأن العمل الخيري والمساهمة فيه هو جزء أساس من اهتماماتي الشخصية، وأولوية قصوى في مسيرتي المهنية التي امتدت في هذا القطاع لأكثر من ربع قرن. وبالرغم من هذه التحفظات، إلا أنني استخرت الله سبحانه وتعالى، وقررت فتح هذا الملف الساخن على حلقات أملا في المساهمة مع القائمين على هذا القطاع الخيري في كل دول العالم الإسلامي لرفع كفاءته المهنية، ومكانته الإنسانية والاجتماعية. ويعلم الله انني ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما هدفي من هذه السلسلة التثقيفية إلا دعم العمل الخيري بشتى الوسائل المهنية الممكنة.

ولا يخفى على كل ذي لب، بأن المؤسسات الخيرية لم تعد مؤسسات بسيطة في منظومتها الإدارية، ولم تعد تلك المؤسسات التي تقوم بدور المحصل للتبرعات وتوصيلها للمستفيدين بعد دراسة يغلب عليها حسن النية، والثقة في الآخرين. بل أن المؤسسة الخيرية في دول مجلس التعاون الخليجي، أصبحت مؤسسة اقتصادية تدير أموالا تقدر بالملايين، بل أحيانا بالمليارات من الدولارات يتم توظيف جزء منها في استثمارات تجارية بهدف تنميتها، أو في أوقاف تضمن حالة الاستدامة لتلك المؤسسة الخيرية ومشاريعها.

 وكذلك تقوم المؤسسة الخيرية بدور تنموي رائد يسد النقص الذي قد يتسبب من عدم رصد أموال من المؤسسات الرسمية، وأحيانا لرفع الحرج عن الدور الحكومي، وخاصة في دول المنازعات والحروب. فأحيانا، التدخل الرسمي المباشر قد يتسبب في إشكاليات تنعكس سلبا على الدولة المانحة، وعلى علاقاتها بالدول الأخرى ذات الصلة بالنزاع القائم، ولكن المؤسسات الخيرية، وبصفتها منظمات مجتمعية، يمكن أن تقوم بهذا الدور الهام بدلا من الدولة ونيابة عنها، وهي ممارسة مقبولة وتتوافق مع القوانين والأعراف الدولية.

كذلك أصبحت المؤسسات الخيرية مؤسسات اجتماعية، تتعرف على حاجات الفئات المستهدفة، وتصمم وتطور مشاريع خيرية، تستهدف بها المانحين والرعاة، والمتبرعين لسد حاجات الفئات المستهدفة. إضافة إلى ذلك، فإن المؤسسة الخيرية تقوم بأدوار أخرى، كالتعليم، والتوعية، والصحة، والإرشاد الديني والأسري والاجتماعي وغير ذلك. وكذلك تقوم المؤسسة الخيرية، بأدوار ثقافية وإعلامية متنوعة. هذه الأدوار المجتمعة وغيرها تستلزم أن تكون مؤسساتنا قادرة على التفاعل الإيجابي مع ما هو مأمول منها، وأن تقوم ببعض هذه الأدوار أو جلها وفق منظومة إدارية ومهنية عالية، مستندة في ذلك إلى مرجعية معيارية دولية ومعتمدة. لأنه لم يعد مقبولا في ظل التشريعات الوطنية في كل قُطر، واستنادا إلى القوانين الدولية التي تنظم ممارسات العمل الخيري والإنساني أن تدار مؤسساتنا الخيرية بمنظومة إدارية ضعيفة وغير مهنية.

وإن المتفحص لواقع مؤسساتنا الخيرية في دول مجلس التعاون الخليجي، يجدها أنها وبفضل من الله سبحانه وتعالى، وبدعم قياداتها الرشيدة ومساندتهم للعمل الخيري في داخل هذه الدول وفي خارجها، وصدق نوايا وجهود المخلصين في هذه المؤسسات، وكذلك الروح الخيرية التي يتحلى بها أهل منطقة الخليج العربي، استطاعت جمع وتقديم المليارات من الدولارات التي تم انفاقها في مشاريع خيرية عديدة في داخل هذه الدول وفي خارجها. ولكن السؤال المهم، هل حققت هذه المشاريع الخيرية الأهداف المرجوة منها. وللإجابة على هذا التساؤل الهام، لا يمكن تجاوز التعرف على واقع العمل الخيري في دول مجلس التعاون الخليجي من خلال بحث تشخيصي سنتناوله بأذن الله في حلقات عديدة، للوصول بعد ذلك إلى النموذج المثالي للمؤسسة الخيرية التي نطمح لها جميعا والتي تدار وفق منظومة اقتصادية، وتنموية، ومستدامة، من خلال التعريف بالوسائل والمعايير المهنية التي تساعد على تحقيق ذلك بإذن الله.