من رحمة الله تعالى بالخلق أن يفتح لهم أبواب الرجاء على مصراعيها، وليس ذلك للصالحين أو السابقين فحسب بل للمخطأين والمجرمين أيضا، وفيأيام عشر ذي الحجة منحة ربانية؛ لإصلاح القلوب، والترقي في مدارج السالكين، والتقرب بالعمل إلى رب العالمين. لكن ما هو العمل الصالح الذي ينبغي علينا أن نكثر منه لكي ننال أعظم نصيب من هذه الفرصة العظيمة؟؟
عدت إلى القرآن الكريم فوجدت الوصية بالذكر الكثير بلا عد ولا حد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، ذهبت للسنة النبوية فوجدت للذكر مكانا خاصا بين الأعمال الصالحة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَزْكَاهَا، عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ” قَالُوا: وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ “[1]
ووجدت الوصية بالذكر في هذه الأيام العشر، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ، مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ -أَوْ: قَالَ: الْعَشْرِ- فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ”[2].
وإذا قسمنا العمل الصالح إلى عبادات لسانية وقلبية وعقلية وبدنية وفردية واجتماعية وجدنا أن افضل العبادات اللسانية هو الذكر، قال ﷺ: “أفضَلُ الدُّعاءِ دُعاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وأَفضَلُ ما قُلتُ أنا والنَّبيّونَ مَن قَبلِى: لا إله إلَّا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له[3].
ما الذي يمكن أن يفعله الذكر في حياتنا ليكون العبادة التي أمر النبي ﷺ بالإكثار منها في خير أيام الدنيا ؟؟
الذكر ليس مجرد حركة اللسان ببعض الكلمات المعروفة وتكرارها دون وعي القلب بها، قد يبدأ المسلم الذاكر لربه هكذا؛ وهذا خير له من السكوت، وخير له من الكلام فيما لا يعنيه، وخير له من اللغو وقول الزور إلى آخر آفات اللسان.
هناك معان عدة ينبغي أن نستحضرها حتى نجد حلاوة الذكر وثماره على القلب والعقل وآثاره الطيبة في دين العبد ودنياه وأخراه، منها:
1- حينما نذكر الله نتذكر قيوميته على الكون؛ فما من نَفَس يتردد، ولا ورقة من أوراق الشجر تتحرك، ولا مخلوق صغير أو كبير يصل له رزق أو ينقطع أجله، إلا بتدبير العليم الحكيم اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، فالله عز وجل بيده مقاليد السموات والأرض ويمسك السموات والأرض ويمد من في السموات والأرض بالأرزاق، ويتولى حفظ من في السموات والأرض. استحضار هذا المعانى يعطي الانسان طاقة روحية هائلة فأمره من حيث الرزق والأجل ووصول النفع والضر بيده جل جلاله وما الناس إلا أسباب لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا.
شعور الإنسان بأن وجوده وكيانه مرتبط بالسماء وليس بالأرض، يجعله يسير مرفوع الرأس محفوظ الكرامة مطمئن إلا أن سعيه لطلب الرزق عبادة وعمارة للكون، ومحاولاته الخاطئة – إذا سلك الطريق الصحيح وقصد وجه الله – سيأخذ عليها أجرا في الدنيا إذا علم أن هذا الطريق لا يوصل إلى الهدف، ويأخذ أجر المجتهد المخطأ كذلك.
2- والإنسان تلهيه الدنيا وتغره، ويجتهد شياطين الإنس والجن في جذبه بعيدا عن الصراط المستقيم، وتدعوه نفسه الأمارة بالسوء إلى الإثم والعدوان، يحتاج إلى من يذكّره بالله تعالى وما أعده للطائعين من عباده مما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويحتاج إلى من يذكّره بوعد الله تعالى لعباده الصالحين في الدنيا بالخير والنصر والعزة، ويحتاج إلى من يذكّره بصراط الله الذي له ما في السموات والأرض، فمن استقام على هذا الصراط وقاوم النزعات الداخليه والإغراءات الخارجية، فتح الله تعالى له بركات من السماء والأرض.
3- إن ذكر الله تعالى زاد يتقوى به المسلم على مصاعب الحياة فيستحضر معية الله عز وجل له، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي[4] وقد كان شعور الأنبياء والصالحين بمعية الله تعالى أكبر دافع على الاستمرار على الصراط المستقيم، رغم ما يتحملوه من جهد فهم يسيرون عكس تيار الشهوات الذي لا ينظر إلا إلى ما تحت قدمه، والذي يرفع شعار: “غدا بظهر الغيب واليوم لي”، فيغرق في اللحظة الحاضرة ولا ينظر لما بعدها.
4- ذكر الله تعالى ينبهنا إلى رحمته الواسعة التي لا تضيق بمجرم أراد العودة لربه، بل لا تضيق بمن أسرف على نفسه في المعاصي، فمن المتقين الذين أعد الله تعالى لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
5- ذكر الله تعالى ينبه المسلم إلى أن ما بيده من نعم من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه} [النحل: 53]، فلا يغتر حين يمدحه الناس، فمن مدحك فإنما مدح مواهب الله فيك فالفضل لمن منحك لا لمن مدحك وكلما شعر المسلم بالافتقار إلى الله أغناه الله عز وجل من فضله.
6- كلما ذكر المسلم ربه كلما تذكر أن هذا النعم لا بد أن تقيد بالشكر، وأن الشكر هو طريق بقائها وزيادتها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وأن الله تعالى كما وهب يمكن أن يأخذ، فالملك ملكه يعطي من يشاء ويسلب ممن يشاء، وعطاؤه سبحانه وتعالى لحكمة وحرمانه سبحانه وتعالى لحكمة لا يفهمها إلا من آمن به جل جلاله.
ولفوائد الذكر التي لا حصر لها نجد حرص الصحابة رضي الله عنهم على تذكير الناس بالذكر في أيام العشر، جاء عند الإمام البخاري: كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَانَ عُمَرُ – رضى الله عنه – يُكَبِّرُ فِى قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا[5].
والسوق أحد مواضع الغفلة واللهو عن ذكر الله، وأحد الأماكن الي ترتع فيها النفس؛ حيث ينطلق نظر البعض إلى ما حرم الله:
أ- من عورات تتجه إليها أحد سهام إبليس المسمومة التي تشغل العقل والقلب.
ب- ومن عين حاسدة لا تشبع ولا تشكر حين ترى ما أنعم الله على بعض الخلق دون بعض.
وتجد الجشع الذي يغري بالحلف الكاذب، وتجد الرغبة في إنقاص السعر بعيدا عن قواعد العدل، وتجد غياب الأخوة حين يرى المتعاملون بعضهم البعض صيدا لابد من اقتناصه. في هذا الجو الذي تغيب فيه الأخلاق وينسى الناس ربهم لابد من صوت يضبط حركتهم ويعيدهم إلى الصراط المستقيم ويوقفهم عند حدود الله تعالى .فكان هذا الصوت نابعا من هدي النبوة في التكبير والتذكير به.
ولعل اختيار ابن عمر وأبا هريرة للتكبير من بين الأذكار التي أمر النبي ﷺ بالإكثار منها في أيام العشر، تذكيرا بما يتقاتل الناس عليه ووضعه الطبيعي بالنسبة للمسلم، قال ﷺ: “لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا”[6] فعلى أي جزء من جناح البعوضة يتقاتلون.
نحتاج إلى من يذكرنا بأن المنافسة الشريفة هي الحل لكي يحفظ الناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وأن الدنيا عندما تتحول إلى غابة سيأكل القوي الضعيف، وسيحتال الضعيف لكي يحمي نفسه وقد يدفعه الخوف إلى أن يبادر بالهجوم.
يمتد الذكر لأيام التشريق، بَعَثَ النبي ﷺ عَبْدَ اللهِ ابْنَ حُذَافَةَ أَيَّامَ مِنًى، يَطُوفُ. «يَقُولُ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ للهِ”[7].
إن الذكر الذي يتصل فيه العقل بالقلب والأرض بالسماء يمكن أن يجدد الإيمان ويرسخ اليقين، ويتحول إلى طاقة تعمر الأرض وتصلح من شأن الفرد والمجتمع.