يُعد الغدر في الإسلام من كبائر الذنوب والصفات الذميمة التي حذّر منها الله ورسوله بشدة، لما له من آثار مدمرة على الفرد والمجتمع.

في كتاب الله الكريم، نجد حديثًا مفصلاً عن الصفات الإنسانية، بما فيها من خير وشر، وغدر وخيانة، وصدق وكذب. إن معرفة هذه الصفات لا تحقق العبودية لله تعالى فحسب، بل تكشف لنا أيضًا عن طبيعة البشر المعقدة، حتى لا نُفاجأ بمواقف غير متوقعة تؤدي إلى الندم والألم. قراءة متأنية للقرآن والسنة النبوية تكشف لنا هذه الطبيعة وتبين لنا كيفية التعامل معها بحكمة.

الغدر: صفة إنسانية ذميمة حذر منها الإسلام

ومن الصفات الإنسانية الذميمة التي حذّرنا الله تعالى منها في كتابه وعلى لسان نبيه هي صفة الغدر. وللتشنيع من شأن هذه الصفة والتشهير بأصحابها، نجد في صحيح البخاري حديثًا عظيمًا.

عقوبة الغادر يوم القيامة: فضيحة على رؤوس الخلائق

روى البخاري في صحيحه عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: “لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ – قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ، وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ – يُعْرَفُ بِهِ”.

عقوبة الغادر يوم القيامة أن يقف تحت راية يراها الناس وينظرون إليها فيفضحه الله تعالى بين الخلائق، وقد فهم علماء المسلمين خطر الغدر وشره على دين الناس ودنياهم، لذا وضع الإمام البخاري هذا الحديث تحت عنوان: “إِثْمِ الْغَادِرِ للْبَرِّ وَالْفَاجِر” وهذا يدل على تجريم الغدر سواء كان المغدور به محسنا  أو مسيئا طائعا أو عاصيا

حرمة الغدر حتى مع غير المسلمين

إن مبدأ الوفاء بالعهد في الإسلام مطلق ولا يتجزأ، حتى مع غير المسلمين. وجه الله تعالى نبيه إلى الوفاء بعهده معهم فقال سبحانه: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58] يقول تعالى لنبيه : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ} قد عاهدتهم {خِيَانَةً} أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أي: عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في [العلم ]بذلك،..{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي: حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضًا[1]

وفي السيرة النبوية قصص وفاء وغدر؛ وفاء خرج من الإسلام ونبيه وأهله بمقتضى الايمان بالله تعالى، وقد كان بين الدين والوفاء «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَّا قَالَ: “لَا ‌إِيمَانَ ‌لِمَنْ ‌لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ”[2]

قصة غدر يهود بني النضير: درس من السيرة النبوية

عاهد النبي سكان المدينة من اليهود حين دخل إليها فيما يعرف “بوثيقة المدينة” وكان من بين بنود هذه الوثيقة الاشتراك في حماية المدينة وبعض الأعباء المالية التي تتطلبها الدولة الوليدة، وبناء على هذا الاتفاق ذهب النبي - -إلى يهود بني النضير يطلب منهم أن يشتركوا في دفع دية قتيلين قتلهما مسلم خطأ، وكان هذا الأمر شائعا بين المتحالفين فانظر إلى حسن استقبالهم وسوء تدبيرهم ومكرهم.

(قَالُوا: نَفْعَلُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا أَحْبَبْت.قَدْ آن لَك أَنْ تَزُورَنَا وَأَنْ تَأْتِيَنَا، اجْلِسْ حَتّى نُطْعِمَك! وَرَسُولُ اللهِ مُسْتَنِدٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَتَنَاجَوْا، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمّدٌ فِي نَفِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُونَ عَشْرَةً فَاطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَاقْتُلُوهُ، فَلَنْ تَجِدُوهُ أَخْلَى مِنْهُ السّاعَةَ!

فَإِنّهُ إنْ قُتِلَ تَفَرّقَ أَصْحَابُهُ، فَلَحِقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بِحَرَمِهِمْ، وَبَقِيَ مَنْ هَاهُنَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حُلَفَاؤُكُمْ، فَمَا كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ فَمِنْ الْآنَ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ: أَنَا أَظْهَرُ عَلَى الْبَيْتِ فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي هَذِهِ الْمَرّةَ وَخَالِفُونِي الدّهْرَ! وَاَللهِ إنْ فَعَلْتُمْ لَيُخْبَرَنّ بِأَنّا قَدْ غَدَرْنَا بِهِ، وَإِنّ هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فو الله لَوْ فَعَلْتُمْ الّذِي تُرِيدُونَ لَيَقُومَنّ بِهَذَا الدّينِ مِنْهُمْ قَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ وَيُظْهِرُ دِينَهُ!

وَقَدْ هَيّأَ الصّخْرَةَ لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ وَيَحْدُرَهَا، فَلَمّا أَشْرَفَ بِهَا جَاءَ رَسُولَ اللهِ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا هَمّوا بِهِ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ سَرِيعًا كَأَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً، وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُ قَامَ يَقْضِي حَاجَةً، فَلَمّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا مُقَامُنَا هَا هُنَا بِشَيْءٍ»[3]

لقد رأى أهل الغدر في وجود النبي في ديارهم مع عدد قليل من أصحابه فرصة عملياتية كبيرة قلما تتوافر، وفي لحظات عمل الغدر عمله ووضعت الأهداف ورسمت الخطة؛ حجر يلقى من أعلى البيت يقتله صلوات الله وسلامه عليه يتفرق المجتمعون حوله فيعود أهل مكة إليها ويبقى الأوس والخزرج  وهم حلفاء اليهود القدامى وينتهي بذلك هذا الخطر الكبير، وفي مقابل صوت الغدر كان صوت الحق الذي نطق به سلام بن مشكم وأخبرهم بأن النبي سيعلم بالغدر وحتى لو استطعتم أن تقتلوه سيبقى من يعاقبكم على هذه الغدر. انتصر الغدر على صوت الحق ومع هذا المكر الشديد إلا أن الله تعالى بالغ أمره ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]  أنقذ الله تعالى نبيه وأخبره بما تخفيه صدور الغدارين فخرج مسرعا دون أن يتكلم، انتظر أصحابه رضوان الله عليهم عودته لكنه لم يعد فتبعوه.

انظر إلى أهل الغدر وهم يمدون يدهم بالسلام وينطقون بالترحاب ويعدون بالمعونة وأعينهم تبحث عن نقطة ضعف، وجوههم تبتسم بينما تستعد يدهم الأخرى لكي تضرب الضربة القاصمة، وهذه الصفات السيئة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأبناء عن الأجداد حتى تصل إلى عصرنا وتبقى إلى يوم القيامة.

وقد سجل الله تعالى خيانتهم وغدرهم في كتابه الكريم ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155] 

وعندما ننظر في الغدر لنعلم مصادره في هذه النفوس الخبيثة وما ينتج عنه من قسوة في التعامل مع الآخر  وصفها الله تعالى بقوله ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155]  سبب هذه القسوة هو الاستعلاء على الآخرين والشعور بالتفوق العرقي، وقد أعلنوا ذلك للنبي -- حين دعاهم للإسلام وحذرهم غضب الله تعالى ونقمته « فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى: نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} إلى آخر الآية.» [4]

هذا الشعور بالتميز والأفضلية يحميهم من الشعور بالذنب تجاه الآخرين فأموال غيرهم ودماؤهم وما يملكون لا حرمة لها “{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب، فإن الله قد أحلها لنا”[5]

التعامل مع أصحاب النفوس الغادرة

علمنا الله تعالى كيف نتعامل مع أهل الغدر فهم صنف من البشر ستلقاهم في كل  مكان فعليك:

 أولا: إدراك أن قوة الله فوق قوتهم: وذلك أن تدرك المدى الذي يمكن أن يصلوا إليه وأن غدرهم يصور لهم قدرة لا حدود لها، لكن الله تعالى يكشف عن خطأ هذه الحساب فيقول جل جلاله {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} [النور]، مهما بدا لك من قوتهم وبطشهم فهم وغيرهم لا يعجزون الله تعالى فقوتهم ممنوحة من ربهم: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾ [آل عمران: 196-197].

ثانيا: السعي لامتلاك القوة الرادعة: إدراك أن قوة الغدر مهما بلغت يمكن التغلب عليها وهذا يحملنا على السعي لذلك والعودة لقوله تعالى  ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60]  هذا الإعداد يوفر للمسلمين قوة الردع و يحميهم من العدوان عليهم بل التفكير فيه.

ثالثا:اليقظة والحذر الدائم: ينبهنا الله تعالى إلى أهمية اليقظة والحذر من الغفلة فالعدو منتبه ينتظر لحظة تنام فيها الأعين أو تتوه فيها العقول لكي يقوم بعمله الغادر  ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ [النساء: 71]  «يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله {ثُبَاتٍ} أي: جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أي: عصبًا، يعني: سرايا متفرقين، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} يعني: كلكم»[6]

رابعا: الاعتصام بحبل الله والوحدة: إن أعظم سلاح في مواجهة الكيد هو التمسك بدين الله ووحدة الصف. يقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]  فحبل الله تعالى فيه النجاة والبقاء مهما عظم الكيد واشتد الغدر وتذكروا دوما ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43].

تنزيل PDF