الغفلة هي أحد أكبر الأعداء التي تواجه الإنسان في حياته اليومية، سواء على الصعيد الديني أو الدنيوي. قد تكون الغفلة صغيرة وغير محسوسة، ولكنها قادرة على التأثير بشكل كبير على النجاح الشخصي والعلاقات الاجتماعية والروحية. في هذا المقال، سنتناول مظاهر الغفلة المختلفة في حياتنا، سواء كانت في علاقتنا بالله تعالى أو تعاملنا مع الآخرين، وكيف يمكننا تجنبها واستعادة السيطرة على حياتنا لتحقيق توازن بين الدنيا والآخرة.

ما هي الغفلة؟ وكيف تؤثر على حياتنا؟

أحد الفوارق الكبيرة بين الناجحين وغيرهم هو الانتباه للفرص المتاحة واقتناصها، وهذا الانتباه عند أهل الدنيا يتجه نحو الفرص الاستثمارية وفرص تكوين علاقات تترجم لمنافع مادية. بينما أحد سمات الفاشلين هو الغفلة، وهذه الغفلة ليست خطرًا دنيويًا فحسب، إذ تفوت فرص النجاح والعمل، بل هي خطر ديني كذلك. وتتضح الغفلة الكبيرة جدًا عند المقابر؛ فهي إحدى آخر محطات الإنسان في الدنيا وانتقاله إلى عالم آخر، ومع ذلك تجد من يحضرون الجنازة يتحدثون في كل شيء ويفكرون في كل شيء إلا فيما هم بصدده من دفن ووداع وإهالة للتراب ونهاية حياة شخص كان قريبًا منا.

كثيرة هي المواضع التي يصاب فيها الإنسان بالغفلة ومنها:

الغفلة عن الله تعالى وفضل النعمة

الغفلة عن الله تعالى وأن الخير بيديه، وما أذل البشر وأراق ماء وجوههم إلا هذه الغفلة. فإذا أنعم سبحانه على بعض خلقه، انشغلوا بالنعمة عن ربهم جل جلاله، وقلما تذكروا فضل الله عليهم وهم يستخدمون نعمه، فقالوا: “اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك”. وإذا ابتلي أحدهم بسلب نعمة، طرق كل الأبواب ونسي باب الكريم سبحانه وتعالى.

خطوات الانحراف الصغيرة وتأثيرها السلبي

الغفلة عن الانحراف التدريجي الذي يبدأ يسيرًا خطوة بخطوة ثم يتسع. هؤلاء الذين تجرأوا على فعل الكبائر والقبائح واستحلوا الدماء والأموال، لا تتوقع أنهم بين ليلة وضحاها قد تحولوا إلى مجرمين. وتجارب الحكماء تقول: “ومعظم النار من مستصغر الشرر”. فإذا أطفأنا الشرارة الصغيرة، وقينا أنفسنا من الحرائق الكبيرة، وإذا تركنا أبواب الفتن مفتحة، توشك أن تجرفنا تياراتها.

الغفلة عن إصلاح القلوب

لماذا إصلاح القلب هو أول خطوات النجاح الروحي؟ الغفلة عن إصلاح القلوب التي هي محل نظر الله سبحانه وعنايته. قال رسول الله : “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”[1]. ينبغي أن نخرج من كل عبادة وقد تركت أثرًا في قلوبنا، فيكون صمتنا فكرًا ونطقنا ذكرًا ونظرنا عبرا.

  الغفلة عن الشرود في الصلاة وفي خطبة الجمعة

هذا الشرود يشعرنا بأن الصلاة طويلة ثقيلة، بينما الدقيقة ستون ثانية داخل الصلاة ووقت الخطبة وخارجها. هذا الشرود يحرمنا بركة الصلاة وسماع المواعظ وما يمكن أن تصلح من قلوبنا وتريح نفوسنا، وتعيد تأهيلنا لاستقبال الحياة بصدر أرحب وعقل أرجح وتفاؤل أكثر. وعلى قدر حضور القلب في الصلاة، يأخذ نصيبه منها. عن عبد الله بن عنمة المزني، عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخفف فيها، فقال له: “لقد صليت صلاة خففت فيها”. قال: “هل رأيتني انتقصت شيئًا من حدودها؟” قلت: “لا”. قال عمار: “بادرت وسواس الشيطان”. إني سمعت رسول الله يقول: “إن العبد لينصرف من صلاته وما كُتب له منها إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها أو سدسها أو خمسها أو ربعها أو ثلثها أو نصفها”[2].

إن الصلاة التي يؤديها العبد بطمأنينة وحضور قلب ومحاولة استجلاب الخشوع، هي التي ينتفع بها سواء كانت صلاة أطال فيها الركوع والسجود والقراءة أو قلل.

غفلة الإنسان عن كونه جزءًا من كل يؤثر ويتأثر حسب قدرته ومواهبه، وأنه ليس كالريشة في الهواء تتوجه حيثما وجهتها الرياح. بل أعطاه الله تعالى قوة يحافظ بها على نفسه وعلى من يحب، بشرط أن يستعين بالله تعالى ويدرك هذه النعمة وينمي إرادته وقدرته.

الغفلة عن الأوقات الفاضلة مثل وقت خطبة الجمعة، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وبين الأذان والإقامة في كل صلاة، والثلث الأخير من الليل، وشهر رمضان.

الغفلة عن استثمار الأوقات الفاضلة

يعيش الإنسان بين نشاط وفتور وقوة وضعف وحزن وسرور. لذا عليه أن ينتبه للفترات التي يكون فيها أقدر على الإنجاز. وليكن ذلك نوعًا من الادخار؛ ادخار المعروف والعمل الناجح والعلم النافع والعمل الصالح والمواقف المؤثرة، وأوقات الخلوة والتفكر والنظر للمستقبل، وترميم العلاقات التي تقطعت أو أوشكت على التقطع. قال رسول الله لرجل وهو يعظه: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.[3]

الغفلة عن استثمار الوقت

الغفلة عن نعم الله على العبد

تلك النعم التي لا يستطيع اكتشافها أو الاستفادة منها سواء في نفسه أو في أبنائه، حتى تموت الموهبة فيهم.

الغفلة عن طبيعة العلاقات التي تقوم على المصالح

الغفلة عن طبيعة العلاقات المصلحية، هذه العلاقات لا يوثق فيها بعهد ولا وعد، فلكل وجهة هو موليها، وقبلة المصالح دائمة التغير لا تثبت على حال واحد.

الغفلة عن الذكر

الغفلة عن ذكر الله تجعل لحظات الانتظار والفراغ تبدو طويلة. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

الغفلة عن تأثير الكلمات

الكلمات قد تترك جروحًا عميقة يصعب شفاؤها. قال الشاعر:

جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

الغفلة عن النية في الأعمال اليومية

مع تسارع الحياة وغياب البحث عن الأجر وقصد إرضاء الله تعالى، يفقد المسلم الكثير من الفرص التي يمكنه من خلالها الحصول على أجور عظيمة. من أهمها استحضار النية الصالحة، التي تحول العادة التي يفعلها كل البشر إلى طاعة لله تعالى ومصدر للحسنات. ينبغي أن نستحضر النية قبل كل عمل مهما كان في أعيننا صغيرًا، فإن النية تجلب البركة من الله تعالى فيعظم أثره ويبقى. وهناك ما يمكن أن نسميه بخارطة النوايا.

فإذا أصبح الإنسان، ينبغي أن ينوي أربعة أمور: أداء ما فرض الله عليه، اجتناب ما نهى الله عنه، إنصاف من كان بينه وبينه معاملة، إصلاح ما بينه وبين الناس من خصومة.

الغفلة عن لقاء الله

استحضار هذا اللقاء يعدل من مسار الإنسان ويحسن من سلوكه. والصلاة تذكرنا بهذا اللقاء، وآيات القرآن الكريم تجعله رأي العين.

الغفلة عن مصاحبة الصالحين

قد يستثقل البعض ذلك الصاحب الصالح، لأنه يستشعر تقصيره في حق نفسه وحق ربه. وبدلًا من أن يسعى للإصلاح ما استطاع، يبتعد خطوة خطوة عن هذا المصدر من الخير والنور الذي ييسره الله تعالى له. قال عيسى بن مريم عليه السلام: “جالسوا من يذكركم بالله رؤيته، ومن يزيد في علمكم منطقه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله”[4]. هؤلاء الناس يرفعون من قدرتنا على الانتباه لمواضع الزلل ومواطن الأجر.

الغفلة عن الأخيار والأشرار

مع وضوح هذه الحقيقة، إلا أننا نجد في كل لحظة من يخدعون ويخسرون أموالًا وعلاقات ومواقف وأرصدة، بسبب أولئك الذين يظهرون بمظهر الناصح الحريص على المنفعة. هؤلاء المخادعون يسرقون العقول بسحر الكلمات، ويعرفون كيف يتسللون إلى نفوس ضحاياهم من خلال إرضائهم وتملقهم وإشعارهم أنهم أجمل وأذكى من في الأرض، وإسماعهم ما يحبون. ومن خلال الوعود الكاذبة والأرباح الضخمة والحياة الرغدة، يستغلون ضعف ضحاياهم.

العبادة في وقت الغفلة

قال رسول الله : “العبادة في الهرج كهجرة إليّ”. الهرج: القتال والاختلاط. وإذا عمت الفتن، اشتغلت القلوب، وإذا تعبد حينئذ متعبد دلّ على قوة اشتغال قلبه بالله عز وجل فيكثر أجره[5].

الغفلة عن الخلافات العميقة بين الزوجين

الخلافات قد تتسع لتصل إلى الخيانة أو الطلاق، مع أن القريبين قد لا يلحظون ذلك، بل ربما لا ينتبه الزوج والزوجة إلى حالات النفور أو يهملونها. وعندما تحدث الفاجعة، يتعجب الجميع كيف وصلوا إلى النقطة التي لا يمكن الرجوع أو الانطلاق بعدها. لذلك، لابد من عين يقظة، وهذه اليقظة لا تعني التجسس بل رعاية العلاقة وسقيها بماء المودة، والانتباه إلى حالات الحزن والغضب والعمل معًا على إنهائها. من الأفضل أن يكون هناك اتفاق على آلية لحل الخلافات قبل أن تتسع.

خاتمة

الغفلة هي عدو النجاح في الدنيا والآخرة. إن تجنب مواطن الغفلة، واستثمار الأوقات الفاضلة، والتأمل في نعم الله، يجعل الإنسان في طريق الفلاح. علينا أن نكون يقظين دائمًا، وأن نذكر الله في كل لحظة، مع الحرص على إصلاح قلوبنا ومراجعة أنفسنا باستمرار.