إذا انتقلنا من ارتباط اللفظ القرآني بالسنة النبوية؛ إذ لها دورٌ رئيسٌ في تحديد دلالته أو مدلوله الشرعي،  فإننا ننتقل إلى منطقة الغيب وعالم الغيبيات في القرآن الكريم،  فمِمَّا لاشك فيه أن له أثرًا على دلالة معاني الألفاظ في القرآن الكريم، فأثر الغيب في القرآن، يحول دون الاعتماد فقط على المناهج الكلامية الحديثة، والتي تستخدم في تفسير النصوص الأدبية، فالآخرة والروح والملائكة والساعة والجنة والنار والعذاب كلها ألفاظ لامثيل لها من الواقع، وتمثل غيبًا يؤمن به المسلمُ، يفسرها القرآن من خلال آياته أو تفسرها السنة.

إذًا لا يجب أن ننسى أنَّ هناك جانبًا غيبيًّا في نصوص القرآن، وجانب غير مرأي وغير مدرك بالحواس المادية، وأنى للمناهج الغربية وليدة المادية الإلحادية أن تصل إلى فهم هذه النصوص واسخراج مكنونتها.

إنَّ القراءة الحداثية سوف تقتصر على قراءة المفردة اللغوية وتحليلها بمفاهيمها بعيدًا عن المفاهيم الإسلامية التي تكملها الأحاديث النبوية والإلزام بالإيمان الغيبي.

ولا يجب أن يفهم أنَّ في ذلك صراعًا بين العقل والنص، فالعقل هو مصدر تسليمنا بالغيب نحن نؤمن بعقولنا، فإذا أدركنا بالعقل والتفكر بان الإسلام دين صحيح، ودين سليم، فما يقوله الإسلام عن الغيب نؤمن به لمصداقيته التي آمنا بها، وإذا كان الغرب ينكر الغيب بدعوى التعارض مع العقل، فماذا يفسر الكهرباء والمغناطيس ويفسر انتقال الصورة  والصوت والضوء.

 ولم يقدم لنا أحد من أصحاب المناهج الحداثية- وتلك ملحوظة أساسية سنتناولها بالتفصيل- قراءة تطبيقية للنصوص التي تتكلم عن الملائكة والآخرة والعذاب والنعيم والنار، فعلى سبيل المثال لم يقل لنا أحد من الحداثيين ما قراءته لقصة الإسراء والمعراج ، فظلت قراءتهم قراءة تنظرية،  لم يجر لها تطبيق على نصوص القرآن إلا قليلًا في محاولات فاشلة سنعرض لها فيما بعد.

وتخيروا آيات لخدمة أغراضهم الاستشراقية كآيات الميراث للطعن فيها، والقول بأنها آيات تاريخية ارتبطت بزمنها، فلا مجال لتطبيقها الآن.

لقد كان المعتزلة وهم أصحاب فكر يعد حداثيًّا في عصره وفى زمنهم أكثر منهم جرأة، وربما أدق منهجًا حينما تناولوا معجزات النبي وعذاب القبر وصفات الله محاولين فهمها فهمًا عقليًّا دون مساس بأصول العقيدة أو إنكار قدسية النص الإلهي، لكن الحداثيون وجدوا ضالتهم في نزع القداسة أحيانًا عن الآيات التي تصطدم بالعقل، وتدخل في حيز الغيبيات، واعتبروا أن تجاوز هذه الآيات المصادمة للعقل من وجهة نظرهم – طورًا من طور الوعي الإنساني، وهو الطور الذي عاش على الأساطير والخرافات، فزعموا أنَّها من قبيل الأساطير وخيالات شكلت بنية ذلك النص على حد تعبير أركون ونصر أبوزيد، فالأخير ينفي وجود الحسد بقوله ليس ورود كلمة الحسد في النص الديني دليلًا على وجودها الفعلي والحقيقي، بل دليلًا على وجودها في الثقافة  مفهومًا ذهنيًا، والشيء نفسه بالنسبة للسحر والجن والشياطين، فهو يرى أنَّها بنية ذهنية  ترتبط بمرحلة من مراحل تطور الوعي الإنساني.

إنَّ تلك القراءة تجعلهم في مأزق حقيقي، فإذا كانوا ينكرون الجن والشياطين رغم وضوح وجودهم  في آيات قرانية، مثل: قصة سيدنا سليمان وقوله تعالى: { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سورة سبأ، الآية (14)]. فإنكار وجود الجن أمر قطع به نصر أبوزيد – فما الذي يجعله يقبل بالملائكة أو كل ما يتعلق بالغيب ؟!

المهم أنَّ قراءة النص القرآني قراءة واعية وفاهمة ومدركة لا تتأتى مطلقًا إلَّا من خلال منهج مستقل، يقوم على العلم باللغة العربية وأصول الفقه والحديث واعتبار مناهج أصول الفقه وقواعده هي منهج لا يقل في ترابطه وبنيانه عن أي منهج وفكر قائم على مقدمات توصل إلى نتائج منضبطة.

 هذا من جهة ومن جهة أخرى إنَّ القراءة اللغوية للنص القرآني والتأويلية النابعة من اللغة وحدها لن تفرز إلَّا معاني قاصرة ومفاهيم مبتذلة، ولا تفي بأغراضه، ناهيك عن نزع القداسة عن هذا النص، فالأمور الغيبية وعالم الروح الذي تحدث عنه القرآن لا يمكن إخضاعه أو فهمه وفقًا لمناهج قامت على المادية، وعلى ماهو موجود مع إنكار الغيب، وعده خرافةً، فالوقت الذي تعجز هذا المناهج عن تفسير كثير من الظواهر غير المرئية مما كشفت عنه العلوم الحديثة والتطور العلمي الذي وصلت إليه البشرية. وهو ما يكشف عن تناقض حقيقي، وقصور فى هذه المناهج.