الذي يهمني دائما سلامة المنهج في التأصيل والاستدلال والإفتاء أكثر من مضمون الفتوى المعينة، لأن الخطأ في الفتوى ليس عيبا، بل المجتهد المخطئ له أجر، شريطة أن يكون منهجه في الاجتهاد سليما.
أرى في معرض الخلاف بين طلبة العلم من يحاول أن يظهر المخالفين له كأنهم يخالفون الوحي، فتراه يأتي بالنص، ليختمه بعبارة (ولا اجتهاد مع النص)، ومنهم من يزيد: (أقول لك قال رسول الله -ﷺ- وتقول لي: قال أبو حنيفة والشافعي؟!)
هذا السلوك متوقع أن يصدر من شباب لم يتمكنوا بعد من أصول العلم الشرعي، أما أن يصدر من (عالم) أو طالب علم فهذا مستغرب علميا وسلوكيا.
إن عبارة (لااجتهاد مع النص) أو (لا اجتهاد في معرض النص) فهمت فهما خاطئا، فاجتهادات الفقهاء كلها في النص، أي في فهم النص، واستنباط الحكم منه بطريق من طرق الاستنباط، فمثلا؛ مباحث الدلالات ومراتبها، والتعارض والترجيح، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وأنواع الحكم وأسبابه وشروطه وموانعه، والفرق بين علة الحكم وحكمته، كل هذه إنما هي قواعد لفهم النص واستنباط الحكم منه وهي مدار الاجتهاد.
بل حتى المباحث الأخرى التي يُظن أنها بعيدة عن النص مثل؛ القياس والإجماع والمصالح المرسلة، كلها في الحقيقة قواعد لفهم النص ولفهم مراد الله تعالى، فمثلا يقال: بناء المدارس، أو أنظمة المرور هذه من المصالح المرسلة، والحقيقة أنها مرسلة يعني لم يأت بها نص تفصيلي، لكنها بلا شك مندرجة تحت نصوص شرعية كلية، مثل (من سلك طريقا يلتمس فيه علما) و (أعطوا الطريق حقه). ولذلك قال الإمام الغزالي: لا حاكم في الحقيقة إلا الله، بمعنى أن مصدر التشريع إنما هو الله تعالى وحده.
أما أن يتصور طالب علم أن فقهاءنا المعتبرين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والأوزاعي وابن حزم قد أباحوا لأنفسهم الاجتهاد بما يخالف النص فهذا جهل ما بعده جهل وبهتان ما بعده بهتان.
والحقيقة أيضا أن منهجية هؤلاء الفقهاء لا تختلف أبدا عن منهجية الصحابة رضي الله عنهم، فالصحابة الذين اجتهدوا فأوقفوا حد السرقة عام المجاعة، مع وجود نص قرآني صريح في وجوب إقامة الحد إنما اجتهدوا في تحقيق مقصد الحكم، والنظر في أسبابه وشروطه وموانعه، فلا يجوز أن يقول قائل: إنهم خالفوا النص، وكذلك ما روي من اختلاف بين الصحابة في تقدير صدقة الفطر من الحنطة بين الصاع ونصف الصاع، إنما كان ذلك لاختلاف تقدير قيمة الحنطة بالنسبة إلى (التمر والشعير) اللذين ورد بهما النص الصريح، ومثل هذا كثير وكثير مما لا يخفى على طالب علم.
أكرر هنا أننا نناقش المنهجية، ولا يعني هذا أبدا أن قول الفقيه لا يحتمل الخطأ، فالفقيه معرّض للخطأ في تقديره للواقع وفي فهمه لدلالة النص وحكمته وعلته، وهو مأجور على خطئه، لكن الخطأ كل الخطأ والإثم كل الإثم أن أتهم الفقهاء بإهمال النص والاعتماد على اجتهاداتهم العقلية المجردة، ثم أدعي أنه أنا المحامي عن النص والمدافع عن السنّة بوجه هؤلاء الفقهاء، أعوذ بالله تعالى من ذلك.