صدر العدد الثاني من مجلة “الهند” للعام 2019، ليستكمل مسيرة الأعداد الثلاثة السابقة عن سيرة وأعمال العلامة الهندي”عبد الحميد الفراهي” (1863-1930م)، العدد يقع في (669) صفحة، ويحوي أكثر من عشرين دراسة وبحثا علميا عن الفراهي، كما أنه يضم تحقيقا لديوانه الذي أصدره باللغة العربية بعنوان “في ملكوت الله”، ويشتمل على بيبلوغرافيا بالأعمال التي كتبت عنه، والتي كان أكثرها باللغة الأوردية، التي اهتمت أكثر بذلك الهندي الذي صرف جهوده إلى القرآن ومعانيه وتدبره.
القرآن في حياة الفراهي
استحوذ القرآن الكريم وعلومه ومعارفه على حياة الفراهي وغالبية مؤلفاته ودروسه، فكان عندما يرى أحد من طلابه مقبلا على تدبر القرآن الكريم، يسعد به، ويتلقى تساؤلاته بصدر رحب، ويشجعه على التساؤل، وسعى أن يتعلم طلابه تدبر القرآن الكريم، وكان يقول لهم: “تدبروا القرآن في آخر الليل سيفتح الله عليكم مكنونه”، وينصح من يريد أن يتدبر آية من القرآن أن يبحث في الآية التي تسبقها، وسياقها ومناسبة نزولها، ونظام السورة ونظمها، فللقرآن حقائق ومعارف متجددة، ومع ذلك لم يكن يصبر على سوء فهم القرآن الكريم، ويرى أن جهود المستشرقين كانت قاصرة عن فهم القرآن ومعارفه.
وقد قرأ الفراهي غالبية التفاسير، وتوقف عند تفسير الإمام الرازي، ورأى أن الرازي يمهر في هدم المبنى، ولكنه ليس بماهر في بنائه، أي أنه يفند آراء وحجج المخالفين ببراهينه القوية، ولكن القول الذي يرجحه لا يكون قويا، ورأى الفراهي في نفسه أنه يختلف عن الرازي في أنه يعرف البناء أكثر من الهدم، أي أنه يجيد اختيار الرأي الأقوى ويرجحه.
تميز أسلوب الفراهي العلمي في التعامل مع القرآن الكريم بالإيجاز، فعندما يتناول قضية قرآنية كان يحيطها علما لمعرفته باللغة العربية وتاريخها وآدابها، وقد بلغت عدد مؤلفاته أكثر من ثلاثين كتابا، فكان لا يكتب إلا إذا وجد شيئا جديدا يستحق الكتابة، فيصرف إليه قلمه لتدوينه، وكان يميل إلى العزلة، أما حديثه فكان منصرفا إلى العلم بعيدا عن اللهو.
ومن كتبه المهمة “جمهرة البلاغة” الذي قدم فيه محاولة تجديدية للبلاغة العربية، معتبرا علم البلاغة من العلوم الخادمة للقرآن الكريم، ووجه انتقادات لكتاب “مفتاح العلوم” للسكاكي المتوفي (626هـ) وهذا الكتاب يعتبر من الكتب الرئيسية في فهم البلاغة العربية، فقد ظل منهج السكاكي هو المسيطر على دراسة البلاغة في القرون التي تلته، ورأى الفراهي أن فن البلاغة العربية تأثر بفن البلاغة اليوناني خاصة “أرسطاطاليس” في نظرية المحاكاة، وهو ما جعل فن البلاغة العربية يبتعد عن القصد، لذا دعا أن يكون علم البلاغة منبثقا من القرآن الكريم، وكلام العرب الأقحاح.
كان الفراهي يرى أن تدبر القرآن الكريم هو الوسيلة إلى الهدى والتقى، لأن النفس بالهدى تستبصر وبالتقوى تتزكى، وفي أحد كتبه تساءل عن السبب وراء ورود بعض السور في القرآن الكريم في غاية الإيجاز مثل سورة العصر، والكوثر، والإخلاص، ورأى أن الإيجاز جاء لتحقيق وعد الله سبحانه في حفظ الدين، ومن ثم جعل الأصول الكلية الجامعة لهذا الدين على غاية الإيجاز والوضوح، فإن أفراد الأمة إذا لم يستطيعوا حفظ الكتاب كاملا، فإن تلك السور القصار تحفظ الحدود الكلية لدينهم، فيقول:”السور القصار ألذ وأحلى، وأسهل وأجلى، فالقارىء ينتظرها كالمسافر إلى منزل طيب بهيج، أو كما توضع أحلى الأطعمة على المائدة في آخر الوليمة، أو كما يترقى المرء من الأرض إلى السماء، فكلما قرب إلى آخر القرآن قرب إلى معاني الأمور، وأصول الدين”.
البحث عن الحكمة
من الأمور التي دعا إليها الفراهي في تدبره مع القرآن البحث عن الحكمة في الكتاب المبين، فكما أن القرآن نزل لبيان العقائد والشرائع والأحكام، فإنه أُنُزل لتعليم الحكمة، وتعليم الحكمة لا يتأتى بإلقاء المعارف، وإنما يتأتى باستعمال الفكر والعقل، وحثه العقل على النظر، لذا كان في القرآن جانب ظاهرا بين واضح، وهناك جانب مكنون يحتاج إلى غوص لاستخراج فائدته ومعانيه وغاياته، لذا دعا الفراهي لفهم نظام القرآن، والعمود الذي يستند إليه كل سورة من القرآن، ويعتبر عمود السورة ركن رئيس في نظرية الفراهي في نظام القرآن، ويقصد بعمود السورة أن لكل سورة موضوعا مركزيا أو عمودا تدور حوله أجزاؤها، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال التدبر، ووضع الفراهي في ذلك كتابا نفيسا هو “نظام القرآن”، وبدء ببعض السور لتطبيق نظريته، إلا أن الأجل لم يتح له إكمال مشروعه الرائد، ويعد الفراهي أول من اهتم بعلم نظام القرآن الكريم، فقضى حياته في دراسة اللغة العربية وبلاغتها وعلم النقد، وكان يرى أن “فكرة نظام القرآن الكريم هي الكيفية الإلهية التي تأتي من تلاوة القرآن الكريم ودراسته والتدبر فيه.
كان الفراهي يرى أن تعلم اللغة العربية وآدابها مع معرفة علم الكتب السماوية ضروري لكل من يريد أن يخوض في مجال التفسير، لذا تعلم اللغة العبرية، وحينما كان يلقي محاضرة حول القرآن الكريم كان يضع مباحث التوارة أمامه، فاهتم بدراسة العلوم التي تكون ضرورية لفهم القرآن الكريم مثل: الأدب الجاهلي وعلم البلاغة والنحو والصرف.
كان مشروع الفراهي القرآني مبثوثا في اثني عشر كتابا، وكان يرى أن الخطوة الأولى لتفسير القرآن هي المعرفة بالكلمة المفردة، لأنها البداية لمعرفة المعاني، لذا كان يستعين بتضلعه ببعض اللغات مثل العبرية لفهم بعض من مفردات القرآن الكريم، وألف كتابا مهما بعنوان “مفردات القرآن”، وفي هذا الكتاب قدم الكلمات التي اختلف المفسرون في معانيها أو تحديد مدلولها، فحدد المعاني نظرا إلى النظام القرآني، وكتب في مقدمة كتابه “الخطأ في معنى الكلمة وتحديد مدلولها ربما يصرف الإنسان عن تأويل السورة بأسرها”، وكان يرى أن من لم يتبين معنى الألفاظ المفردة من القرآن أغلق عليه باب التدبر وأشكل عليه فهم الآية، وربما ذهب بفهمه إلى الجهة المقابلة، واعتبر أن جزءا من سوء فهم بعض المعاني في القرآن يرجع إلى عدم التضلع في اللغة العربية وكلام العرب وفصيحهم، وناقش الكتاب (73) كلمة مثل: آلاء، الأبابيل، الأبتر، أحوى، الحبك، حرد، سارب، الشوى، الشيطان، الضريع، الطوفات، الغثاء، الغيب، الفتنة، القربان، الكوثر.
توفي الفراهي قبل أن يكمل تفسير القرآن الكريم، وكان يرى أن أول شيء يفسر به القرآن هو القرآن نفسه، ثم يأتي بعد ذلك فهم النبي-ﷺ- وأصحابه، واعتنى في تفسيره بنظام القرآن أكثر من غيره، وكان يرى أن جل المشكلات التي تظهر في فهم آيات القرآن مبعثها عدم التزام المفسرين برباط الآيات، أي بنظام القرآن، لأنه متى تبين النظام كان فهم المعنى والمدلول أقرب.