قد يبدو عنوان هذه المقالة منذ الوهلة الأولى غريباً إلى حد ما؛ فيتساءل القارئ عن معنى الفروض الكفائية وعلاقتها بالتنمية المستدامة، ولكن بعد شيءٍ من التروِّي والتمعُّن في المفردات والمعاني سيتّضح للقارئ أن العنوان ليس بغريب، وأن الفروض الكفائية هي محور التنمية المستدامة وآلية من آليات النهوض الحضاري الذي تحتاجه الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي فإننا نحتاج أن نُسهم في نفض الغبار عن العلاقة بينهما لتبدو ظاهرة للعيان.
إن إسهامات الفروض الكفائية في تحقيق التنمية المستدامة تعتبر من الموضوعات المهمة التي شغلت بال عدد من الباحثين، فألفوا حولها كتباً عديدة، منها: “الفروض الكفائية: الإطار المعرفي للتنمية المستدامة” لصالح قادر الزنكي، و”الفروض الكفائية وآثرها في نهضة الأمة” لرضا العبادي، و”دور الفروض الكفائية في تحقيق التنمية المستدامة: رؤية إسلامية” ليحيى أحمد المرهبي، و”إحياء الفروض الكفائية سبيل تنمية المجتمع” لعبد الباقي عبد الكبير.
ولعل من أهم الكتب المؤلفة في هذا الباب كتاب “الفروض الكفائية سبيل التنمية المستدامة” الذي فاز من خلاله الباحث اليمني أحمد صالح علي بافضل بجائزة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية المحكّمة عام 2014، وهو عبارة عن “دراسة شرعية واقتصادية واجتماعية تحاول إبراز وتشخيص وتأطير دور الفروض الكفائية في تحقيق التنمية المستدامة”، وسيكون هذا الكتاب عمدتنا في هذه المقالة التي تسعى إلى التعريف بالفروض الكفائية ومجالاتها وآثارها ودورها في تحقيق التنمية المستدامة والنهوض بالأمة الإسلامية في مختلف المجالات.
مفهوم الفروض الكفائية ومجالاتها
الفروض في اللغة جمع فرْض، وفي الاصطلاح هو “ما طلب الشارع من المكلفين فعله طلباً جازماً، ومن أسمائه: الواجب والمحتوم والمكتوب”، وتنقسم الفروض إلى قسمين: فرض عين وفرض كفاية، والقسم الأخير هو موضوع حديثنا في هذه المقالة، وقد عُرّفت الفروض الكفائية بتعريفات عديدة لكنها متقاربة، حيث عرّفها الغزالي بأنها “كل مهم ديني يُراد حصوله ولا يُقصد به عين من يتولاه”، في حين عرّفها الزركشي بأنها “مهم في الدين يُطلب حصوله من غير نظر فاعله”.
والناظر في الفروض الكفائية يجد أن من أهم ملامحها أنها من ضرورات الحياة في كل زمان ومكان، فهي تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وكلياتها الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، كما أن من ملامحها أنها عمل تكميلي مساعد، فصلاة الجماعة أو سدّ حاجة المسلمين أعمال مساعدة ومكملة لأمور أخرى.
وللفروض الكفائية مجالات عديدة ومتشعّبة ومتجددة، منها: إحياء الحرم في السنة بالحج والعمرة، وإصلاح ذات البين، والخدمات الاجتماعية كالتمريض، وتعليم العلوم الحياتية كالطب والحساب، وزراعة الأرض، وهناك فروض كفائية مستجدة، مثل: تأسيس الجمعيات والقنوات، وإنشاء البنوك والشركات الاستثمارية لاستغلال الثروات، وبناء الجامعات ومراكز البحث، وصناعة الأجهزة التي تساهم في توفير متطلبات الإنسان.
مفهوم التنمية المستدامة وأركانها
يعتبر مصطلح “التنمية المستدامة” من المصطلحات الحديثة إلى حد ما، حيث ظهر في ثمانينيات القرن الماضي، والواضح أن الدول المتقدمة والدول النامية أقبلت على هذا المصطلح بشكلٍ واسعٍ نظراً لأهميته، وقد أشار إلى هذا الإقبال دوجلاس موسشيت في كتابه “مبادئ التنمية المستدامة” فقال: “عمدت الدول المتقدمة والدول النامية إلى تبني مبدأ (التنمية المستدامة) باعتباره المبدأ التنظيمي الرئيسي، وهو ما يجب أن تفعله للحفاظ على نظم دعم الحياة وضمان توافر بيئة صحية ودفع انتشار الازدهار قدماً”.
ويبدو أن لفظ التنمية يأتي في اللغة العربية للدلالة على زيادة الشيء وتكبيره، فقد ورد عند بعض العلماء المسلمين المتقدمين -كالسمعاني وابن حجر- للدلالة على زيادة الشيء وتكبيره أيضاً، أما في الاصطلاح المعاصر فقد تنوعت تعريفات التنمية حسب وجهة أصحابها، فأصبح عند الأوروبيين مقتصراً على “تحويل حالة الاقتصاد من الركود إلى الانتعاش”، ثم توسّع مع الوقت ليشمل مجالات أخرى.
ومهما كان الأمر، فإن مفهوم التنمية المستدامة ليس مفهوماً مقصوراً على مجال واحد كما قد يظن البعض، بل يشمل مجالات عديدة، فـ “التنمية المستدامة ليست مجرد تحقيق النمو الاقتصادي، بل الوصول إلى مجتمع متكامل الاحتياجات”[1]، وقد يتأكد لها هذا الشمول أكثر عندما ننظر إلى أركان التنمية المستدامة التي حددها مؤتمر قمة جوهانسبرج عندما قال في تقريره: “أركان التنمية المستدامة المترابطة هي: التنمية الاقتصادية ، والتنمية الاجتماعية، و حماية البيئة “، وقد نكون في غنى عن القول إن الأركان الثلاثة السابقة لا يمكن أن تتحقق دون وجود تنمية ثقافية علمية حقيقية.
علاقة الفروض الكفائية بالتنمية المستدامة
بالنظر إلى مفهوميْ الفروض الكفائية والتنمية المستدامة السابقيْن، نجد أن العلاقة بينهما واضحة إلى حد كبير، ذلك أن “جميع فروض الكفاية تتعلق بالتنمية، ومعظمها تُعدُّ أعمالاً عامة وشروطاً وأركاناً في عملية التنمية المستدامة”[2]، وبالتالي فإن الفروض الكفائية هي محور التنمية المستدامة وآلية من آليات النهوض الحضاري.
وعلى هذا المنوال، نجد الباحث الأفغاني عبد الباقي عبد الكبير يقول في كتابه “إحياء الواجبات الكفائية سبيل التنمية” إن عملية التنمية فرض كفاية، في حين نجد الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في محاضرة له بعنوان: “التنمية والنهضة: رؤية مقاصدية” يَصِفُ فروض الكفاية بأنها مدخل عملية التنمية والنهضة.
وما دامت الفروض الكفائية تُعدُّ أركاناً في عملية التنمية ، فإن غيابها يعني غياب أركان رئيسية ستؤثر بالضرورة على النهوض بالأمة، ولهذا فقد ذهب المؤلف إلى أن غياب الفروض الكفائية يمثل مظهراً أساسياً من مظاهر التخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، فلا تنظر إلى شبر من أرض المسلمين إلا ووجدت العوز والفقر والذل والمهانة والفاقة والتشرد، ويبدو أن هناك عدداً من العلماء المسلمين المعاصرين قد أكدوا ضعف حضور الفروض الكفائية في المجالات الحياتية، ومن هؤلاء: يوسف القرضاوي في “الشريعة والحياة”، وسعيد حوى في كتابه “كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر”.
وعندما نطالع خريطة الفروض الكفائية لنتقدّم خطوة نحو التنمية المستدامة، سنجد أنها هناك جملة من الفروض الكفائية الغائبة أو غير المكتملة، مثل: الاجتهاد في الأحكام الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغياب الاكتفاء الذاتي للمسلمين، وضعف التكامل الاقتصادي بين الشعوب، ولا بد أن يكون لغياب الفروض الكفائية آثار مختلفة على نهوض الأمة الإسلامية، فما تلك الآثار ؟
آثار غياب الفروض الكفائية
لا شك أن غياب الفروض الكفائية له آثار عديدة في المجالات الحياتية المختلفة تحول دون الوصول للتنمية المستدامة التي تحتاجها الأمة الإسلامية، ومنها: إقصاء الشريعة ومنهج الإسلام عن مفاصل الحياة، وانتشار الفقر في ديار المسلمين، وعجزهم عن تحقيق الاكتفاء الذاتي، وفقدان الحكم الراشد، وسيطرة الاستبداد وعدم الاستقرار، وانتشار الجهل والأمية، وفشل المؤسسات التعليمية والجامعات ومراكز الأبحاث، وهجرة العقول نحو المجهول.
ولا تقتصر الآثار السلبية لغياب الفروض الكفائية على ما سبق ذكره، بل هناك آثار سلبية أخرى، منها: العجز عن صناعة متطلبات الحياة اليومية، والإفراط في استيراد الأجهزة والتقنيات الرئيسية الفاعلة، وعدم قدرة المسلمين للتصدي للأمراض المنتشرة، وعجزهم عن التخلص من المخلفات الضارة بالبيئة في البر والبحر والجو، الأمر الذي يجعل من المسلمين وبلدانهم مجرد حقول تجارب لمختلف المنتجات.
وفي هذا السياق قد يتساءل القارئ قائلاً: ما أسباب غياب الفروض الكفائية الموصلة للتنمية المستدامة؟ وللإجابة على هذا السؤال، نقول إن المؤلف ذكر أن أركان القيام بالفروض الكفائية اثنان، هما: وجود رغبة وإرادة عند الإنسان للعمل بها، وتوفّر وسائل وأوعية يتم تنفيذ الواجبات الكفائية عبرها، ثم أوضح أن هذين الأمرين يمثلان أركان آلية التنمية ، وإن غابا فلا قيام للفروض الكفائية، ومن ثم لا قيام للتنمية المستدامة الحقيقة المرجوّة، والظاهر أن الواقع يؤكد غياب هذين الركنين الأساسيين إلى حد ما[3].
الفروض الكفائية الموصلة للتنمية المستدامة
الحديث عن الفروض الكفائية التي يمكن أن ترسم لنا الطريق الموصلة للتنمية المستدامة المنشودة يستدعي منا التوقف مع الأهداف العامة النظرية للتنمية المستوحاة من الفروض الكفائية، والقواعد الاستراتيجية للقيام بالفروض الكفائية الموصلة للتنمية، والأعمال الحياتية الموصلة للتنمية المستدامة، وتسليط الضوء على القائمين بالفروض الكفائية وحالاتهم.
إن الناظر بتمعّن في الفروض الكفائية سيكتشف أنها تمدّ “عمليةَ التنمية المستدامة بمسالك تُنير دروب الراغب في تنمية مجتمعه، وتوسع آفاق المخطط لأبعاد يدركها صاحب الشرع”، فالنصوص الشرعية مليئة بالأدلة والتعاليم التي تشرّع الأعمال العامة لصالح الكون وأهله، ويمكن إجمال الأهداف العامة النظرية للتنمية المستوحاة من الفروض الكفائية في هدفين رئيسيين، هما: تلبية حاجات الإنسان ومستلزماته، وقيام المجتمع والأمة بوظائفهما في الحياة.
فإذا نظرنا إلى مستلزمات الإنسان، سنجد أنها نوعان: مادية واقتصادية مثل: الأكل والشرب، ومعنوية مثل: الحرية والكرامة، أما إذا نظرنا إلى ضرورة قيام المجتمع والأمة بوظائفهما في الحياة فسنجد أن هذا الهدف مربوط بتحقق أربعة أمور، وهي: العبودية الحقة، والشهود الحضاري، والاكتفاء الذاتي، والاستقلالية غير المنعزلة، وكل هذه المسائل ضرورية لتحقيق التنمية ونهوض الأمة.
ولأن الفروض الكفائية غير محددة المعالم لا بالمقدار ولا بالكيفية ولا بالمكلف المطالب بالفعل، فإن السير على الطريق الموصلة للتنمية المنشودة قد لا يخلو من بعض المطبات والمزالق، وحرصاً على تجنب تلك المطبات والمزالق قدم المؤلف مجموعة من القواعد الاستراتيجية “الأساسية التي تُعِين واضعي الخطة التنفيذية على اختيار الفروض الكفائية المناسبة زماناً ومكاناً وحالةً وفقاً لمعطيات الحاضر”[4].
ويمكن تقسيم تلك القواعد الاستراتيجية إلى نوعين، الأول: قواعد وسياسات عامة توجه المكلف والمخطط عند إرادة القيام بالفرض المطلوب، ومنها: تسمية الواجب الكفائي المطلوب، وتحديد مقدار الواجب الكفائي المطلوب، وتصنيف الواجبات على حسب قاعدة الأولويات، أما النوع الثاني فهو المسالك العامة التي يقتضيها تنزيل الفروض الكفائية، ومنها: الحذر من طغيان الهدف الاقتصادي، والموازنة بين طلب الوسيلة وفعل الهدف، والتعامل مع الآخر وتجنب أضراره، ومراعاة عدم الإضرار بالأجيال القادمة، وتحديد المنهج والنظرية، فلا بد للتنمية من نظرية تسير عليها.
وقد يكون من المهم هنا التذكير بأن الفروض الكفائية تشتمل على مجموعة من الأعمال الحياتية الموصلة للتنمية ، مثل: سدّ الحاجات، وحصول الذاتية، وتحقيق الشهادة، وقد أورد المؤلف خمسة أنواع من الأعمال التنفيذية من فروض الكفايات الموصلة للتنمية وهي: بناء العلاقات الاجتماعية، وبناء أهل الحل والعقد، والعناية بالتخصصات العلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد البيئة النافعة، وينبغي العناية بهذه الأعمال التنفيذية وأركان الفروض الكفائية، فإذا غابت فلا قيام للفروض الكفائية، ومن ثم لا قيام للتنمية المستدامة الحقيقة المرجوّة.
وقبل ختام هذه المقالة علينا أن نقول إن هناك عقبات عديدة تحول دون تحقيق التنمية المستدامة عن طريق استثمار الفروض الكفائية، من أهمها قلة الأفراد الراغبين في القيام بالفروض الكفائية على أحسن وجه، ومحدودية الوسائل التي يتم تحقيق أهداف الفروض الكفائية من خلالها، والحقيقة أن كيفية إيجاد القائمين بالفروض الكفائية يحتاج إلى تهيئة الأفراد والمجتمع والدولة والأمة، وقد آن لنا أن نقوم بتلك التهيئة وأن نكثّف الجهود لتجاوز العقبات والصعوبات التي تمنع تحقيق التنميةالمنشودة التي تحتاجها أمتنا الإسلامية، فيا ترى هل سننجح في ذلك أم لا؟
[1] أحمد صالح علي بافضل، الفروض الكفائية سبيل التنمية المستدامة، 43.
[2] المصدر نفسه، 44.
[3] انظر، المصدر نفسه، 66-67.
[4] المصدر نفسه، 124.