في 31 أكتوبر 2003 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد، واختارت يوم 9 ديسمبر يوما دوليا لمكافحة الفساد وتحمل الأمم المتحدة جميع القاطنين على ظهر الكوكب الأرضي مسؤلية مكافحة الفساد.
أردت أن أتداول معكم هذه الأفكار حول الفساد فإن تحميل الناس مسؤولية حول تغيير ظاهرة سيئة لابد أن يأتي بعد مدارسة تحاول فهم جذورها لعلنا نستطيع إدراك ما يمكن تقديمه لعلاجها.
بداية تتسع النظرة الإسلامية إلى الفساد لتشمل الفساد العقدي والخلقي والاجتماعي والفكري بينما تضيق بعض النظرات حين تتناول قضية الفساد لتقصره على الفساد المالي والإداري.
وترى النظرة الإسلامية المتكاملة أن الفساد المالي والإداري هو ثمرة مرة لألوان الفساد التي ذكرتها قبل قليل.
ولمزيد من توضيح الفكرة أقول: وجد الإنسان على ظهر هذا الكوكب ليجد بيئة مليئة بالخيرات الكافية لتوفير حياة سعيدة فيها المسكن والملبس والدواء، لكل مخلوق نصيبه الذي يكفيه لو قسمت هذه الخيرات بالعدل والإحسان وساد التراحم بين بني آدم. لكن بعض البشر عمى الطمع أعينهم وانتقلوا من عالم الإنسان إلى عالم الوحوش بل أضل سبيلا يريدون أن يأخذوا الدنيا بين أيديهم دون أن يتركوا لأخوتهم الفتات إلا ليقتاتوا عليه حتى يكملوا مهمتهم كعبيد يعملون ويقدمون ثمار أعمالهم وعرقهم وجهدهم للآخرين وحتى يتمكنوا من ذلك لابد من إهدار كرامة الإنسان ليقبل بمبدأ العبودية لأخيه الإنسان.
إفساد العقائد: لكن كيف تهدر هذه الكرامة لابد أن ينسى الجميع أنهم عبيد لرب واحد وأخوة لأب واحد ما الذي يرسخ العبودية لله وحده؟ العقيدة الصحيحة لذلك كانت الحملات الكبرى لإنكار وجود الإله سبحانه وتعالى والدعوة للإلحاد أو للأديان المحرفة والتشكيك في النبي ونبوته والقرآن والسنة وكونهما من عند الله وصلاحية القيم التي جاءا بها لكي تصلح من أحوال الإنسان وصلاحية الشريعة الإسلامية لهذا العصر الذي فتت الإنسان فيه الذرة وسار في أرجاء الكون وغاص في أعماق البحار وعلم ما لم يعلمه أسلافه وهكذا يبقى الانسان دون أن يكون هناك وحي يعرّفه بقيمته بين المخلوقات وبرسالته على ظهر هذا الكوكب فيسهل استعباده وتحويله إلى ترس في ماكينة الإنتاج الضخمة.
تثار الأسئلة التي تشككه في كل شيء حتى يصير فارغا من كل حقيقه ومن ثم يسهل اقتياده ويتبع أي فكره مهما كانت قبيحة أو منكره فالميزان الذي توزن به القيم وتقدر به الأفكار معطل تركه ذلك البائس اليائس من تلقاء نفسه والنور الذي يستطيع أن يفرق به بين الحق والباطل مطفئ.
ونحب أن نقرر أن الإسلام لا يضيق بالأسئلة فقد سجل الله تعالى في كتابه سؤال إبراهيم الخليل رب أرني كيف تحي الموتى ولا يضيق علماؤه بالأسئلة أيضا فتاريخنا مليء بالمحاورات العلمية الطويلة.
وكتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ مليئان بالتحصينات العقلية ضد أي فكرة تحاول زعزعة العقيدة حتى جاء عن رسول الله ﷺ قوله لايزال الناس يقولون هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله قال رسول الله ﷺ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله.
لم تكن العقيدة الاسلامية يوما ما معلومات تحفظ ويسأل عنها لتدون العلامات في بطاقة درجات نهاية العام بل كانت دائما قوة تستقر في القلوب، وتطرد الوساوس وتؤسس لحياة جديدة تقوم على الحق والخير والجمال امتلأت بها نفس عربي قديم فوقف أمام قائد لجيش الأمبراطورية الكبرى التي حكمت جزءا كبيرا من العالم يقول: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، زلزلت هذه الكلمات قلب القائد وعرشه وغيرت خريطة العالم ولازال صداها يتردد في العقول ولا يحب أحد من الفاسدين أن يسمعها مرة أخرى، لذا كانت حملات التشكيك والتشويه، ويلحق بها عن قصد أو غير قصد من يقدمون العقيدة كمباحث نظرية لا تترك أثرا في فكر أو سلوك، ومن يثيرون المعارك بين المسلمين ليجعلوا ألد الأعداء من يخالفونهم في إثبات نص أو فهمه، فيأكل بعضنا بعضا ويلعن بعضنا بعضا ونترك المجال لمن يريدون الفساد والإفساد
إفساد الأخلاق: ويلي الحرص على نشر الفساد العقدي نشر الفساد الخلقي فالخبراء بطبيعة الحياة وتاريخ الشعوب يقررون مع الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وهم بذلك يتفقون مع الغاية من الرسالة الإسلامية التي جاءت للصلاح والإصلاح، وقال رسولها ﷺ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وفي قمة المنظومة الخلقية يأتي خلق العفة وخلق الأمانة.
حائط العفة: ولعلنا نلمس المحاولات المتعددة لتحطيم حائط العفة ذلك الحائط الذي يحمي الرجال والنساء والكبار والصغار والأسر والمجتمعات، وعندما ينتشر بين الناس عدم التأكيد على صيانة العفة وعدم الحفاظ على حرمة الجسد من النظر أو من اللمس يسوء ظن الشباب والفتيات في بعضهم البعض ولا يفكرون بإنشاء أسرة جديدة والاقتران بامرأة أو فتاة لا ترد يد لامس، فمن ناداها أجابته ومن مد يده سارت معه، يتوقف الزواج وعلى اقل تقدير يتقلص عدد الراغبين فيه، ويغلق الباب الذي أحله الله لاقتران الرجال بالنساء لتفتح عشرات الأبواب التي حرمها الله ومن ثم تفتح أبواب الفساد على مصراعيها لتلتهم طاقات الناس وتغيبهم عن واقعهم وتحد من مستوى طموحاتهم.
ولتحطيم جدار العفة تسمع من يحدثك عن الاختلاف بين البشر وأنه طبيعة إنسانية، كما تختلف ألوان الطيف فلو قسمت دائرة إلى سبعة أقسام متساوية ولونت كل قسم بأحد ألوان الطيف السبعة ثم جعلت الدائرة تدور لرأيت ان هذه الألوان السبعة، تظهر بلون واحد هو اللون الأبيض إن الناس مختلفين في طبائعهم وأمزجتهم وأفكارهم وتصورهم للأمور، لكن من يحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، وقبل ذلك ما هو الشيء الذي يمكن أن يقبل الاختلاف وتعدد الآراء؟ وما هو الشئ الثابت الذي ينبغي أن نجمع عليه؟ ما الذي يحدد الثابت المجمع عليه وما الذي يحدد وسيلة الاختلاف في الأمور التي من الممكن أن نختلف فيها؟
إذا كنا مسلمين فالذي يحدد الثابت من المتغير والمجمع عليه من المختلف فيه ووسيلة الحكم بين المختلفين هو كتاب الله وما صح من سنة النبي ﷺ إذا حكّمنا الفطرة السليمة التي لا تميل مع الهوى فستقودنا إلى الحق.
يهدمون جدار العفة حينما يحاولون أن يتقبل الناس كل منكر وقبيح تحت دعوى اختلاف بني آدم.
ولهم طريقة أخرى هي محاربة دعاة العفة، بل محاربة المتعففين وإقصاؤهم، فقديما قال قوم لوط: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: 56]، لماذا هذا الإقصاء والقرية تتسع للمتطهرين ولغيرهم، لكن رؤية المتعففين تؤذي غير المتعففين وتذكرهم بانحرافهم وبأنهم خارج إطار المجتمع، لذلك يمارسون هذا الإقصاء ويريدون أن يخنقوا آخر أصوات العفة في نفوسهم وفي المجتمع حتى لا تتنغص عليهم حياتهم ولازالت هذه الرؤية موجودة وصوتها يعلوا ولازالت أصوات المتطهرين تقاوم والله غالب على أمره.
الأمانة: ومن الأخلاق التي يسعى المفسدون لمحوها من الوجود خلق الأمانة
هذه الأمانة التي ارتبطت بالإيمان وكان النبي ﷺ دائما ما يذكر أصحابه بهذا الارتباط، فقلما خطبهم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له فكلما زاد نصيب الفرد من الإيمان زاد نصيبه من الأمانة وكلما نقص نصيبه من الإيمان نقص نصيبه من الأمانة وهذه الأمانة مطلوبة من كل مسلم أيا كان موقعه في السلم الاجتماعي أو الإداري فهي مطلوبة من العامل ورب العمل ومن الأجير وممن استأجره ومن الموظف ومن رئيسه في العمل مهما قلت درجة الموظف أو ارتفعت درجة الرئيس.
وفي السنة النبوية قصة تشير إلى أهمية الأمانة بالنسبة للكون كله وليس للتعاملات اليومية فقد كان هناك أرض زراعية يتقاسم اليهود والمسلمون إنتاجها وكان المسؤل عن تقسيم هذا الإنتاج الزراعي عبد الله بن رواحه رضي الله عنه جمع له اليهود من حلي نسائهم لكي يدفعوا أقل مما يجب عليهم أعلن لهم عبد الله بن رواحه أنه يكرههم لكنه لن يظلمهم فقالوا هذه الكلمة المعبرة عن سنة من سنن الله تعالى في الخلق:” بهذا قامت السموات والأرض” بالعدل مع من نكرههم وباداء الأمانة قامت السموات والأرض بغياب العدالة والأمانة تنهدم السموات والأرض ويفسد نظام الكون وحياة الناس.