أثار موضوع التأثر المتبادل بين الفكر القانوني الغربي والفقه الإسلامي اهتمام عدد من الباحثين في التاريخ المقارن، ومن بين أبرز هذه القضايا الادعاء القائل: بأن نابليون بونابرت – خلال حملته على مصر (1798–1801) – تأثر في تشريعاته اللاحقة، ولا سيما في صياغة القانون المدني الفرنسي (Code Napoléon) الصادر عام 1804 بآراء الإمام مالك بن أنس ومدرسة الفقه المالكي التي كانت سائدة في مصر آنذاك.
يسعى هذا البحث إلى تحليل هذه الفرضية تحليلاً نقدياً من خلال العودة إلى المصادر التاريخية المعاصرة للحملة الفرنسية، ومقارنة النصوص القانونية الفرنسية بالمصادر الفقهية المالكية، مع بيان ما هو ثابت تاريخياً وما هو من باب المبالغة الأدبية أو الانطباع الثقافي.
الحملة الفرنسية وموقف نابليون من القضاء الشرعي
دخلت الحملة الفرنسية مصر في يوليو عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت، واستهدفت من جهة موقع مصر الاستراتيجي، ومن جهة أخرى توسيع النفوذ الفرنسي في الشرق الإسلامي، ومنذ الأيام الأولى لاحتلال القاهرة، أدرك نابليون أهمية كسب ودّ العلماء والأزهر، فأنشأ ما عُرف بـديوان القاهرة الذي ضم نخبة من علماء الأزهر، وأسند إليهم مهام استشارية في شؤون القضاء والإدارة
لم يُلغ نابليون المحاكم الشرعية، بل أبقاها على حالها، فاستمرت تعمل وفق المذاهب الأربعة، مع غلبة القضاء المالكي في كثير من المعاملات المدنية، خاصة في مسائل البيوع والعقود والملكية، نظراً لتأثير الفقه المالكي في مصر منذ العصر الفاطمي وما بعده.
وقد صرّح نابليون في بعض أوامره إلى العلماء بأنه يحترم “قوانين محمد” – في إشارة إلى الشريعة الإسلامية – وأنه جاء لإزالة ظلم المماليك لا لمحاربة الدين… (الجبرتي عجائب الآثار، الجزء:4، الصفحة:8).
طبيعة التشريع المالكي في مصر زمن الحملة
كان الفقه المالكي في نهاية القرن الثامن عشر يمثل مدرسة فقهية متكاملة، تعتمد على مصادر دقيقة ومنهج عملي في تنظيم المعاملات، ومن أهم الكتب التي كانت متداولة حينها: مختصر خليل بن إسحاق الجندي، الذي جمع أمهات مسائل الفقه المالكي، والمدونة الكبرى لابن القاسم، وكتب القرافي وابن رشد المالكي.
حقيقة لقد تميز الفقه المالكي بوضوحه في قضايا الملكية والارتفاق والضرر والجوار، وهي الموضوعات نفسها التي شغلت المشرعين الفرنسيين لاحقاً في صياغة القانون المدني، وقد أثار هذا التشابه اهتمام بعض المستشرقين الفرنسيين بعد عودة نابليون من مصر، مما دفعهم إلى ترجمة أجزاء من مختصر خليل إلى الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر…
جذور القانون المدني الفرنسي ومصادره الأوروبية
أُقرّ القانون المدني الفرنسي سنة 1804، أي بعد عودة نابليون من مصر بثلاث سنوات، وتؤكد اللجنة التي أعدت القانون – كما ورد في محاضرها الرسمية – أن مصادرها الأساسية كانت: القانون الروماني (Roman Law)، القوانين العرفية الفرنسية القديمة (Coutumes de France)، فكر فلاسفة التنوير الفرنسيين مثل روسو ومونتسكيو، ولم تُذكر الشريعة الإسلامية ضمن هذه المصادر (Lentz, 2021).
مواضع التشابه بين الفقه المالكي والقانون الفرنسي
على الرغم من غياب الدليل المباشر، فإن بعض الباحثين أشاروا إلى وجود تشابهات وظيفية بين بعض أحكام الفقه المالكي والقانون المدني الفرنسي، منها:
1- نظرية الضرر والجوار:
تناول المالكية قاعدة:” لا ضرر ولا ضرار” بتفصيل دقيق في قضايا الجوار، فأجازوا منع صاحب الملك من إحداث ضرر بجاره ولو في ملكه الخاص، وقد وردت أفكار مشابهة في القانون المدني الفرنسي في المواد (544–545) التي تنص على تقييد حق الملكية إذا ألحق ضرراً بالغير .
2- أحكام الملكية والارتفاق:
يميز الفقه المالكي بين الملك المطلق والملكية المقيدة بالانتفاع العام، وهو ما يقابل في القانون الفرنسي مفهوم: servitude أو حق الارتفاق، الذي يُعتبر قيداً قانونياً على الملكية لصالح الغير.
3- العقود والالتزامات:
ينطلق المذهب المالكي من قاعدة:” العقود مبنية على المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني”، بينما تبنى القانون الفرنسي مبدأ: “حرية التعاقد” المشابه في روحه لهذه القاعدة.
ومع ذلك فهذه التشابهات لا تعني بالضرورة تأثراً مباشراً، إذ قد تكون نتيجة تطور طبيعي لمفاهيم العدالة والإنصاف المشتركة بين النظم القانونية الإنسانية.
الدراسات الحديثة في المقارنة بين النظامين
أجرت الباحثة الجزائرية حسيبة عبد المالك دراسة مقارنة بعنوان :”Aḥkâm al-Jiwâr Influence on Ottoman Mecelle and Napoleon’s Civil Code”، خلصت فيها إلى أن بعض مبادئ الفقه المالكي في “أحكام الجوار” وجدت طريقها غير المباشر إلى القانون المدني الفرنسي من خلال المجلة العدلية العثمانية (Mecelle)، التي كانت بدورها تُدرّس وتُترجم في الأوساط القانونية الأوروبية في القرن التاسع عشر.
أما الباحث الأمريكي: Juan Cole فقد أكد أن احتكاك الفرنسيين بالعلماء المصريين أثناء الحملة كان له أثر ثقافي وتعليمي، لكنه لم يصل إلى مستوى النقل التشريعي المباشر، فالحملة كانت عسكرية استعمارية، ولم يكن هدفها دراسة الفقه المقارن أو استلهام الشريعة الإسلامية في القوانين الفرنسية.
التحليل النقدي
يبدو أن القول بأن نابليون أخذ معظم تشريعاته من آراء الإمام مالك قول غير دقيق تاريخياً، لأنه يخلط بين مرحلتين مختلفتين:
- مرحلة الحملة الفرنسية على مصر (1798–1801): حيث كان نابليون يطبّق سياسة براغماتية لكسب ثقة المصريين، فاحترم القضاء الشرعي مؤقتاً.
- مرحلة صياغة القانون المدني (1804): التي تمت في باريس على أيدي فقهاء فرنسيين متخصصين بالقانون الروماني، ولم يشارك فيها أي فقيه مسلم أو مصدر شرعي.
إلا أن الاطلاع الثقافي على النظام القضائي الإسلامي قد أثّر على رؤية بعض الإداريين الفرنسيين لمفهوم العدالة والمجتمع، وربما أثار إعجابهم بتماسك النظام الفقهي الإسلامي، وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب حين قال: ” لقد كان الفقه الإسلامي أوسع تشريع عرفه البشر قبل العصر الحديث ” (Le Bon, 1884, p. 210).
وبعد تحليل الوثائق والمصادر يمكن القول: إن الفقه المالكي لم يكن مصدراً مباشراً للتشريع الفرنسي في عهد نابليون، وإنما موضوع دراسة وتأمل ثقافي أثناء الحملة على مصر.
أما القانون المدني الفرنسي فقد تأسس على أصول رومانية ومفاهيم فلسفية أوروبية، وإن وُجدت بعض التشابهات الشكلية مع الفقه المالكي، فهي ناتجة عن تطور طبيعي للمبادئ القانونية العامة المشتركة بين مختلف الحضارات.
وأخيراً: إن هذا التفاعل التاريخي يعكس في النهاية قيمة الفقه الإسلامي كمنظومة قانونية ناضجة أثّرت في الوعي القانوني الأوروبي ولو بطريقة غير مباشرة، ويدعو إلى المزيد من الدراسات المقارنة التي تتجاوز السرد الأسطوري إلى التحليل العلمي الموثق.
