القدس نقطة التماس الحادّة في الصراع الطويل والمرير والذي يأخذ في كل عصر طابعاً مختلفاً بحسب طبيعة العصر وتوازن القوى الإقليمية والدولية، وبهذا السياق يأتي قرار الرئيس ترمب كحلقة طبيعية ومتوقعة من حلقات هذا الصراع، ومعبّرة أيضاً عن حالة التفرعن الطاغي لأميركا ومشاريعها الإخطبوطية في مقابل حالة الوهن والتفكك التي تعيشها أمتنا الإسلامية على مختلف الصُعد.
كالعادة لا تجد شعوبنا العربية والإسلامية إلا الغضب السلبي الذي تعبّر عنه بمسيرات وتجمعات احتجاجية إزاء كل عدوان أو استفزاز، ثم تهدأ فورة الغضب دون أن يتوقف العدوان أو الاستفزاز، ومع هذا فليس من الصحيح تخذيل هذه الجماهير وإشعارهم باللاجدوى، لأن هذا الغضب يعبّر على الأقل عن بقاء قضية القدس حيّة وطريّة في قلوب الناس، والمطلوب تنمية هذا الشعور، والبناء عليه وليس هدمه أو التشكيك فيه.
إن على شعوبنا أن تدرك أن هذا الغضب العاطفي والانفعالي لا بد أن يقترن بحالة من الوعي، الوعي بطبيعة المرحلة التي نمر بها، والوعي بالأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحال، والوعي بقدراتنا وإمكانياتنا الذاتية التي يمكن الاستناد إليها وتوظيفها بالشكل الصحيح لعبور القنطرة التي توقّفنا عندها كثيراً، ثم تشتتت بنا السبل في حالة أشبه ما تكون بحالة التيه.
إنه ليس عيباً أن تنتكس أية أمة من الأمم، فهذا قانون تاريخي يحكم حركة الأمم كما يقول ابن خلدون، فلكل أمة آمادها في النهوض والانتكاس، لكن العيب كل العيب أن تطول حالة الانتكاس أكثر مما هو معتاد، وهذا هو مقدار التحدي، ليس أن لا ننتكس، بل كيف نقصّر مدة الانتكاسة لننهض من جديد، كما فعلت أمم أخرى كألمانيا وفرنسا واليابان.
إننا في حالة الانتكاسة هذه والتي طال أمدها أكثر مما ينبغي لن نتمكن أبداً من تحرير القدس، ولا أن نؤثّر في القرارات الدولية، بل ولن نستطيع أن نحافظ على عواصمنا ومقدّساتنا الأخرى، هذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي أن تعيها شعوبنا، بل نقولها بصراحة ووضوح أن الأنظمة كذلك لن تستطيع في هذا الوضع أن تفعل شيئاً حتى لو أرادت ذلك، بل قد تذهب هي ودولها ضحية أو ثمناً لمثل هذه الإرادة، وأصدق مثال على ذلك تجربة صدّام حسين في العراق، ومن ثم فإن اللوم الذي نوجهه إلى حكّامنا ليس لأنهم لم يحرروا فلسطين والقدس فهم أضعف من ذلك بكثير مجتمعين ومتفرقين، لكن اللوم الذي ينبغي أن يوجّه لهم هو لتقاعسهم عن تقديم أي شيء لتقصير عمر هذه الانتكاسة التي نمرّ بها، بل العكس نحن مستمرون على عهدهم في الهوي نحو قعر الانتكاسة وعمقها اللامتناهي.
إن ضياع فلسطين لم يكن في الحقيقة هو المرض الذي نعاني منه، بل هو عرض المرض، ونتيجته الطبيعية، هذا المرض الذي جعلنا نفقد أربع عواصم عربية بعد القدس!
إن واجبنا الأول هو تشخيص هذا المرض، والمضيّ بخطوات عملية صبورة ومتدرجة للعلاج والنهوض، وقد يتطلب هذا وقتاً طويلاً، هذا أمر طبيعي، لكن المهم أن لا نيأس، ولا نتوقّف، ولتستمر أيضاً أساليب المقاومة والمشاغلة بكل أدواتها المتاحة والممكنة.
إن العدو الذي تمكن من اغتصاب فلسطين في غفلة من الزمن وفي مرحلة انتقالية خطيرة أعقبت سقوط الخلافة وقبل أن تتمكن الأمة من إعادة تشكيل نفسها، قد أعدّ لهذا اليوم عدّته، واستطاع أن يضع رؤيته المتكاملة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً، وأن يحشد لهذه الرؤية دعماً دولياً ليس بالقليل، إضافة إلى تجميع الشتات اليهودي حول هذه الرؤية بالرغم من اختلاف انتماءاتهم القُطرية والقومية.
إنه لشيء كبير يجب أن نعترف لهم به أن يتمكنوا من توحيد رؤيتهم الداخلية رغم الشتات الذي عاشوا فيه لقرون طويلة، وقدرتهم أيضاً على جمع رصيد من المال قادر على سدّ ديون إمبراطورية مثل الإمبراطورية العثمانية حيث عرضوا ذلك بالفعل على السلطان عبد الحميد، فمن أين جمعوا كل هذه الأموال ولم تكن لهم يومئذ دولة؟ ثمّ لما رفض عبد الحميد عرضهم هذا تبيّن أنهم يمتلكون أدوات أخرى حسمت الموقف لصالحهم حتى داخل العاصمة العثمانية.
في مقابل هذا المشروع الخطير الذي يمتلك الخيارات المناسبة لكل حدث ولكل طارئ تقف الأمة العربية والإسلامية في حالة أشبه بحالة الفوضى وشتات الرأي والموقف والخيار والقرار، هذا إضافة إلى كثير من حالات الاختراق والتي قد تصل إلى حد الخيانة في أعلى المستويات.
بعد مرور قرابة القرن من الصراع نجد أن الفارق قد اتسع بشكل يفوق الخيال بين ما وصل إليه العدو وبين ما وصلنا إليه، فالعصابات الصهيونية القادمة من شتات الأرض قد تمكنت اليوم من منافسة الدول العظمى حتى في مجال التصنيع العسكري، وأنا أقرأ أن دولة مثل روسيا قد اشترت السنة الماضية عدداً من الدبابات الإسرائيلية، وأقرأ أيضاً أن نسبة ما تنفقه إسرائيل في مجال تطوير البحث العلمي يزيد على مجموع ما تنفقه الدول العربية في هذا المجال ثماني مرات، وأن نسبة اليهود المؤيدين لإسرائيل في الدول الأوربية مثلاً قياساً بالجاليات العربية والإسلامية هناك فإنها نسبة قليلة جداً، لكنها نسبة مؤثرة جداً بسبب الكفاءات المتميزة والقادرة على التحكم في الكثير من مفاصل الحياة، إضافة إلى التعاون فيما بينهم والتنسيق المتواصل في كل المجالات، بخلاف حالة العرب والمسلمين الذين تقتلهم خلافاتهم وتوجهاتهم المتناقضة حتى في أرض غربتهم.
إذاً معركة القدس الحقيقية هي ليست تلك التي تجري اليوم في القدس أو غزة أو الضفة، إنها أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
نعم إن قضية القدس لا زالت حيّة في الضمير العربي والإسلامي، لكنها حياة متوقفة عند ردود الفعل الآنية، التي لم تتمكن لحد الآن من صناعة المشروع المكافئ للمشروع المقابل. أما المقاومة الفلسطينية -والتي لا يستطيع المنصف إلا أن يقدّر لها صبرها وطول نفسها- فهي مقاومة يتيمة وفقيرة مما جعلها تتأرجح في ولاءاتها وتحالفاتها بحسب تقلّبات الساحة من حولها، ولا شك أنها في وضع لا تحسد عليه، حتى على مستوى قناعاتها الداخلية.
إن معركة القدس بالأساس هي معركة وعي، معركة هوية وعقيدة وتاريخ، وأن الأمة التي تفرّط ببغداد ودمشق وصنعاء، وتفرّط بهويتها وعقيدتها وكرامتها لا ننتظر منها أن تفكّر بتحرير القدس.