القرآن الكريم هو كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وقد نزل على رسول الله ﷺ منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت الآيات والسور تدوَّن ساعة نزولها، إذ كان المصطفى ﷺ إذا ما أنزلت عليه آية أو آيات قال: “ضعوها في مكان كذا … من سورة كذا”.
فقد ورد أنَّ جبريل عليه السلام كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي ﷺ، فيقول له: يا محمد إنَّ الله يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا، ولهذا اتَّفق العلماء على أنَّ جمع القرآن “توفيقي”، بمعنى أنَّ ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنما هي بأمرٍ ووحيٍ من الله.
وقد يسر الله لهذه الأمة من عهد الرسول ﷺ وأصحابه الكرام حفظ كتابه الكريم، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾[القمر: 32]، فكتب الله له الخلود، وحماه من التحريف والتبديل، وصانه من تطرُّق الضياع إلى شيءٍ منه عن طريق حفظه في السطور، وحفظه في الصدور، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41- 42]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 17: 19].
والقرآن الكريم كمصدر تاريخي لا ريب أنه أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق، ولا سبيل إلى الشك في صحة نصِّه، بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، فقد دون في البداية بإملاء الرسول ﷺ، وتلي فيما بعد، وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته؛ ولأن القصص القرآني إنما هو أنباء وأحداث تاريخية، لم تلتبس بشيء من الخيال، ولم يدخل عليها شيء غير الواقع، وأنه كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: 105].
ثم إنَّ الله عز وجل قد تعهَّد – كما أشرنا من قبل- بحفظه دون تحريف أو تبديل، ويرى الدكتور محمد عبد الله دراز أن تسمية القرآن الكريم بالقرآن وبالكتاب، إنما تعني الأولى كونه متلوٌّ بالألسن، بينما تعني الثانية كونه مدوَّناً بالأقلام، وإنَّ تسمية القرآن الكريم بهذين الاسمين، إشارة إلى أنَّ الله سوف يحفظه في موضعين، لا في موضع واحدن أعني حفظه في الصدور والسطور جميعاً.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة الإسلامية اقتداء بنبيها ﷺ بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز، وإنجازاً لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: ﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44]، أي بما طلب إليهم حفظه، والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأنَّ هذا القرآن جيء به مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها، فكان جامعاً لما فيها من الحقائق الثابتة، زائداً عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادَّاً مسدَّها، ولم يكن شيء فيها يسدُّ مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمراً يسر له أسبابه وهو الحكيم العليم.
ولم يُنزَّل القرآن الكريم بمثابة كتاب في التاريخ يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد بالتي هي أقوم، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستوراً للمسلمين، ومنهاجاً يسيرون عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد وإلى تهذيب النفوس، وإلى وضع مبادئ للأخلاق وميزان للعدالة في الحكم، واستنباط لبعض الأحكام، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية فإنما للعبرة والعظة، واستلهام سنن الله في قيام الدول وسقوطها، وازدهار الحضارات وزوالها، وصفات قادة التغيير الإنساني، ومناهجهم في إدارة الصراع مع قوى الظلام والشر والضلال، والبغي والإجرام… إلخ.
ويهتم القصص القرآني بالعبر والدروس الفردية والأسرية والإنسانية، ومعالجة الأمراض النفسية، ودلالة الخلق على الصلة بالله وإفراد العبادة له، والتضرع بين يديه، وشدة الدعاء والانكسار، والتجارب المتنوعة لبني الإنسان، ومنها قصة يوسف وإسماعيل – عليهما السلام – فقصة يوسف قصة إنسان قد تمرَّس منذ طفولته بآفات الطبائع البشرية من حسد الإخوة إلى غواية المرأة، إلى ظلم السجن إلى تكاليف الولاية وتدبير المصالح في إبان الشدة والمجاعة، وقصة إسماعيل تتخللها هذه التجارب الإنسانية، من عهد الطفولة كذلك، فيصاب بالغربة المنقطعة عن العشيرة وعن الزاد والماء، وإن كان الأخطر من ذلك كله أن تكتب عليه التجارب الإنسانية ضريبة الفداء، وهي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت – في معظم مجتمعات الشرق القديم- لا تتورع عن الذبائح البشرية، وبين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة ولكنها تتورع عن ذبح الإنسان، ثم يكتب لهذا الغلام الوحيد بواد غير ذي زرع عن البيت المحرم أن تنتمي إليه أمة ذات شعوب وقبائل، تتحول على يديها تواريخ العالم على مدى الأيام.
معلومات هامة عن عصور ما قبل الإسلام:
هكذا يقدم لنا كتاب الله العزيز معلومات مهمة عن طريق القصص القرآني عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة، كل التأييد، فيقدم لنا – عن طريق قصة موسى عليه السلام– كثيراً من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية، وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها. والأمر كذلك لقصة إبراهيم حيث تقدم لنا الكثير عن العراق القديم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنَّ أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم إنما هما قصتا إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهما قصتان مسهبتان في أجزائه، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعراق أمم الحضارة الإنسانية، وهما أمة وادي النهرين، وأمة وادي النيل، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم.
وأما عن بني إسرائيل فليس هناك من شكٍّ في أنه ليس هناك كتاب سماوي – حتى التوراة نفسها- قد فصل الحديث عن بني إسرائيل وأفاض في وصف اليهود وأحوالهم وأخلاقهم، وأبان مواقفهم من الأنبياء، كما فعل القرآن الكريم، وصدق الله العظيم، حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: 76].
وأما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب الله الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأعني بها “سورة سبأ“، هذا إلا أنَّ القرآن الكريم قد انفرد دون غيره من الكتب المقدسة بذكر أقوام عربية بادت كقوم عاد وثمود، فضلاً عن قضية أصحاب الكهف، وسيل العرم، وقضية أصحاب الأخدود، إلى جانب قصة أصحاب الفيل، وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك.
- صدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49] .
- ويقول: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44].
- ويقول: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 44- 46].
- ويقول: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120].
- ويقول: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الكهف: 13].
- ويقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111].
- صدق رسول الله ﷺ وهو يقول في وصف القرآن: “كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع من العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم”.
هدف القرآن من قصصه ومصداقيته الفريدة:
إنَّ هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ فقط لهذا القصص، وإنما عبراً تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين، وزجراً لخصوم الإسلام من قريش، ثم تثبيتاً لقلب النبي ﷺ أمام أذى الكافرين، حيث شاءت رحمة الله بالمصطفى المختار ﷺ، أن تخفف عنه الشدائد والآلام، عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين، حيث يذكره الله جل وعلا بما لاقاه أخوة كرام له من عنت الظالمين، وبغي الكافرين، فما وهنوا وما استكانوا، وما ضعفوا وما تخاذلوا، ولكنهم صبروا، وصابروا، ومن هنا يخاطب الله رسوله الكريم في كتابه العزيز: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، كما أن في هذا القصص بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط[1].
ومع ذلك يجب ألا يغيب عن بالنا – دائماً وأبداً- أنَّ هذا القصص إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله حيث يقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]، ويقول: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ [آل عمران: 62]، ويقول: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252]، ويقول: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: 3]، ويقول: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ [فاطر: 31]، ويقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر: 2]، ويقول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية: 6]، ويقول: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: 2].
ولذلك إنك إذا قرأت ما ورد في القرآن الكريم من قصص، فإنك لن تجد شيئاً من المبالغات التي وصلت إلينا من كتب التاريخ، أو في توراة اليهود المتداولة اليوم، فضلاً عن أنَّ ما ذكره القرآن الكريم صحيحاً تؤيده الاكتشافات الحديثة.
كقصة عاد وثمود اللتين تبين أنهما مذكورتان في جغرافية بطليموس، وأن هناك الكثير من النصوص التاريخية التي تتحدث عن ثمود، فضلاً عن أنَّ الكتَّاب اليونان والرومان، إنما ذكروا اسم عاد مقروناً باسم إرم كما جاء في القرآن الكريم.
وصدق الله العظيم، حيث يقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 42]، وحيث يقول: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: 92]، وحيث يقول: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فاطر: 31].
وليس صحيحاً كذلك ما ذهب إليه البعض من أنه لا شك أنَّ إشارات القرآن الكريم إلى كثير من القصص، إنما هو دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائد الذي كان يتداوله الناس من بلاد العرب؛ ذلك لأن العرب ما كانوا يعرفون شيئاً عن كثير من قصص القرآن، وعلى سبيل المثال، فإنَّ القرآن الكريم يختم قصة نوح بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ﴾ [هود: 49].
فلو كان العرب يعرفون هذه القصة مثلاً، وأنها كانت من قصصهم الشعبي الذي يتداولونه في أسمارهم، أفكان العرب – وفيهم أشد أعداء النبي ﷺ- من يسكت على قوله تعالى: “مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ”، أليس من المنطق أنَّ أعداء المصطفى ﷺ وقد كانوا دائماً على يقظة يتمنون أقل ثغرة، ليوجهوا من خلالها ضرباتهم، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء، سوف يجيبونه أنهم يعرفون القصة، بل إنها من أساطيرهم التي تفيض بها مجالسهم ونواديهم، ولكن التاريخ لم يحدثنا عمن أنكر على الرسول ﷺ هذه الآية الكريمة، مما يدل على أن ما جاء به القرآن الكريم من أخبار الأمم البائدة، كان شيئاً يكاد يجهله العرب جهلاً تاماً، وإن كان يعلم بعضاً منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل.
المراجع:
جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1974م، 2/151.
عباس محمود العقاد، الإسلام دعوة عالمية، المكتبة العصرية، بيروت. صيدا، لبنان، 1999م، ص 218-219.
عباس محمود العقاد، مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، دار نهضة مصر، القاهرة، 1955م، ص 61.
علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، دار ابن كثير، بيروت، ط1 2020، ص 66 – 72.
محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 15؛ تفسير القرطبي، 1/5.
محمد بيومي مهران، دراسات تاريخية في القرآن الكريم، 1/19 -39.
محمد رشيد رضا، أهداف القرآن ومقاصده، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، 1/ 286 – 293.
محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. السعودية، الطبعة الأولى، 1417ه – 1997م، ص. ص 12-14.
[1] محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، ص 203.