إن التعليم حجر الأساس في حياة المجتمعات وتطورها، ولا يتحقق أثره إلا حين يكتسب الإنسان القدرة على التعلم الحقيقي. والمدرسة في عصرنا الحالي تعتبر أحد البوابات الأولية لارتباط الطالب بفكرة التعلم، فمع بداية موسم الخريف، تستيقظ المدارس على آلاف بل ملايين الطلاب الدالفين إلى القاعات محمّلين بالكتب والدفاتر، لكن هل يحملون معهم شغف القراءة ؟

القراءة فعل وجودي

يظهر التعليم وينمو مع ازدهار العمران وتطور الحضارة، إذ هو شرط أساسي لتقدم المجتمعات واستمرارها. وقد عبر ابن خلدون عن هذا المعنى بوضوح في مقدمته، عند حديثه عن ازدهار العلوم في مدن إسلامية كبرى قبل انحسارها : “واعتبر بحال ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيه الحضارة، وكيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم ولما تناقص عمرانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة وفقد العلم بها والتعليم.” (1).

إذا بحثنا عن الطالب الجامعي الذي تعود على القراءة منذ نعومة أظفاره متجاوزا حدود تخصصه الدقيق، سنجده أكثر قدرة على التفكير النقدي والإبداعي من بين أقرانه، وأحيانا تجده قد اكتملت لديه ملكات بناء الحجة، ومنهجية البحث العلمي، وتمييز الرأي عن الحقيقة المعرفية.

إن القراءة أحد الشروط الضرورية لتحقيق الوعي بالذات وترسيخ الهوية، ففي عصر العولمة والانفتاح الرقمي، تشكل القراءة خط الدفاع الأول ضد التشتت والضياع وخارطة طريق للمضي بوعي في الحياة.

لقد رأى الجاحظ أن الهوية الثقافية تتأسس أولًا على الخصائص الأصيلة للأمة، واعتبر أن البيان والبلاغة هما السمة الجوهرية التي منحت العرب هويتهم المستقلة عن علوم الأمم الأخرى. (2) لكن هذه الهوية لا تكتمل إلا بالانفتاح المعرفي الواسع، فمن خلال منهجه الموسوعي الذي جمع بين آداب العرب وعلوم الأعاجم، أثبت الجاحظ أن القراءة والاطلاع هما ما يصقل الهوية ويحميها، ويمكنها من فهم الآخر واستيعاب معارفه دون أن تفقد أصالتها. (3)

واجب ثقيل!

تعاني المدرسة العربية من أزمة في علاقتها بالقراءة، إذ تحولها من نشاط ممتع إلى “واجب ثقيل”. فالطالب يلزم بنصوص جامدة ومقررات مرهقة، تجعله يربط القراءة بالاختبار، لا بالحياة. وقد لخص الدكتور إبراهيم الأنصاري (4) هذا الخلل بقوله: ” إنه لا توجد أنشطة في النظام التعليمي تعنى بهذا الأمر، سوى بعض الواجبات التي تلقى، كأنها عبء ثقيل على التلميذ”.

هذا الخلل يفرغ المدرسة من دورها التربوي الحقيقي، ويحوّلها إلى مصنع للتلقين، لا إلى فضاء حيّ لإثارة الأسئلة وتوسيع المدارك. والمطلوب اليوم أن تقدم القراءة بغلاف ممتع مثل قصة خيالية أو مقالة فلسفية تفتح الأفق، أو كتاب علمي يبسّط أعقد النظريات.

فالمدرسة التي تعجز عن زرع حب الكتاب، ستعجز عن تكوين جيل قارئ متين الفكر، مهما بدت مناهجها غنية بالمعلومات.

مثلث القراءة

لا يمكن تحميل المدرسة وحدها مسؤولية بناء القارئ؛ فالقراءة تحتاج إلى مثلث متكامل:

  1. الأسرة: حين يرى الطفل والديه يقرؤون بانتظام، يدرك أن القراءة جزء مهم من أنشطة الحياة اليومية.
  2. المدرسة: دور المدرسة أساسي في القيام بتغيير الصورة القاتمة المتكونة عن الكتاب وتحويلها من عبء إلى صديق، وإدراج ساعة أسبوعية للقراءة الحرة، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات خاصة بتلخيص الكتب، وتفعيل دور المكتبة المدرسية والتشجيع على أنشطتها.
  3. المجتمع: يقع على عاتقه توفير مكتبات عامة جذابة، ونوادي قراءة للشباب، ومعارض كتب سنوية. وأبرز مثال يقوم بهذا الدور الرائد مكتبة قطر الوطنية، التي أصبحت نموذجا ناجحا في تعزيز علاقة الشباب بالكتاب.

القراءة والهوية الثقافية

أمسى الشاب عرضة لموجات متناقضة من الأفكار في ظل الانفتاح الإعلامي وموجات العالم الرقمي الهائلة، مما زاد أهمية القراءة كأداة للحصانة ثقافية، فالطالب الذي يمزج بين قراءة كتب التراث والثقافة العربية والإسلامية، ويطلع في الوقت ذاته على الأدب العالمي والعلوم الحديثة، يكتسب مناعة فكرية تجعله قادرًا على التفاعل مع الآخر دون أن يذوب فيه.

إعادة تصميم المدرسة

لكي تُخرّج المدرسة جيلا قارئا لا بد من إعادة تصميم برامجها التعليمية وذلك عبر :

  1. الحصص المفتوحة: تخصيص وقت أسبوعي للقراءة الحرة يختار فيه الطالب كتابا يناسب ميوله.
  2. النقاش والحوار: تحويل النصوص المقروءة إلى مواضيع للنقاش داخل الصف، ليتعلّم الطالب أن القراءة حوار، لا مجرد حفظ.
  3. المشاريع البحثية: تدريب الطلاب على إعداد بحوث قصيرة تعتمد على مصادر متنوعة.
  4. الأنشطة اللاصفية: إنشاء أندية قراءة مدرسية وجامعية تقيم جلسات تناقش مايطرح في هذه الكتب.

مقارنة مع التجارب العالمية

عند نتأمل معدلات القراءة تتضح لنا أبعاد الفجوة التي نعيشها في العالم العربي، سواء على صعيد المبادرات أو الأرقام.

فبحسب تقرير صادر عن مجلة ( CEOWORLD ) نشر بتاريخ 3 يونيو 2024 بعنوان “تصنيف: الدول التي تقرأ معظم الكتب، 2024″، والذي استند إلى مسح شمل قراء الكتب في 102 دولة، أظهر أن معدلات القراءة في الدول العربية لا تزال منخفضة مقارنة بالمعدل العالمي.

فإذا أخذنا متوسط القراءة لكل الدول العربية يصل إلى 3.13 كتابا سنويا، وبالمقارنة مع قراء سنغافورة – على سبيل المثال التي تحتل المرتبة الرابعة عشرة عالميا – يتضح أن متوسط القراءة بلغ 6.72 كتابا سنويا، بمعنى آخر، سنغافورة تقرأ قرابة ضعفي متوسط القراءة من حيث عدد الكتب سنويا.

هذه الأرقام رغم أنها تعكس نسب قراءة متفاوتة داخل العالم العربي، تظل أقل بكثير من الدول المتقدمة عالميا في معدلات القراءة. (5) وبالتالي تبرز الحاجة إلى مزيد من المبادرات المجتمعية والثقافية لرفع معدلات القراءة وتعزيز الوعي المعرفي في المنطقة العربية.

نحو مشروع متكامل للقراءة

إن أردنا جيلًا قارئًا، فعلينا إطلاق مشروع متكامل يحقق الأهداف التالية:

  • إدماج القراءة في المناهج كممارسة حية وفي الأنشطة اللاصفية.
  • توفير مزيد من المكتبات المدرسية والجامعية الحديثة.
  • التحفيز على المشاركة في مبادرات القراءة وربطها بالمقررات الدراسية بشكل مباشر.
  • تشجيع الشباب على التدوين عن الكتب التي يقرؤونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لجعل القراءة “ترندًا” في الفضاء الرقمي.

الخاتمة

القراءة هي الرفيق الذي لا يخون، والمعلم الذي لا يمل، والمدرسة التي لا تغلق أبوابها. وإذا أردنا شبابا قادرا على مواجهة تحديات المستقبل، فلا بد أن نعيد للمدرسة دورها بوصفها مصنعا للقراء لا مصنعا للشهادات، وكما قال المتنبي: “وخير جليس في الزمان كتاب”، لنجعل من الكتاب جليس شبابنا الأول، ولتكن المدرسة هي البوابة التي تفتح أعينهم على لذة القراءة ومعناها العميق.