ظهر في الفترة الأخيرة مؤلفات فقهية، تحمل عنوان ( النظرية الفقهية) وهو بلا شك تصنيف فقهي مستحدث في التاريخ المعاصر، وقد خلت المدونات الفقهية والإسلامية القديمة من مثل هذا النوع من التصنيف.

وهو الأمر الذي حدا ببعض المستشرقين لأن يذهبوا إلى القول بأنَّ العقل الإسلامي بطبيعته بسيطٌ وغير مركب، فهو في نظرهم شديد العناية بالجزئِيَّات مع إغفال الاهتمام بالبناء العام، يهتم بالفكرة التفصيلية دون اهتمامه بالقضيَّة الكبرى الشموليَّة.

لكن سرعان ما يتضح وهاء هذه الفرية إذا ما ألقينا نظرة عجلى على المؤلفات الفقهية التي عرفت بعلم ( القواعد الفقهية) وهي كما عرفها الزرقا “أصول فقهيَّة كلية في نصوص مُوجزة دستورية تتضمن أحكامًا تشريعية عامَّة في الحوادث، التي تدخل تحت موضوعاتها” ( المدخل الفقهي العام (2/965) وقد ألحق بها عِلْم الفروق، والأشْباه والنظائر.

صحيح أن النظريات الفقهية تتمايز عن القواعد الفقهية إلا أن الخط المشترك الجامع بينهما، هو الاهتمام بالبناء العام، والقضايا الشمولية التي تتألف منها جزئيات متعددة، على أن هناك من العلماء من يرى أن النظريات الفقهية تطور لعلم القواعد مثل الدكتور محمد أبو زهرة. ( أصول الفقه، ص 8)

إرهاصات بنشوء علم النظريات الفقهية

كما أن في التراث إرهاصات بنشوء علم النظريات الفقهية، مثل كتاب الخراج، للقاضي أبي يوسف، وهو رسالة في الفقه المالي للدولة الإسلامية.
ومثل كتاب مجمع الضمانات للبغدادي، من علماء القرن الحادي عشر، والكتاب رسالة جامعة في أحكام ضمان العقد وضمان اليد وضمان الإتلاف.
وكتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، وهو رسالة مفيدة تتعلق بالمرافعات الشرعية.
ومثل كتاب تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب جمع فيه مسائل الالتزام، وضبط أقسامه، وبين مشكله، وحرر أحكامه بما لم يسبق إليه.
ومثل كتاب الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الفراء، جمع فيه الأنظمة الدستورية والإدارية، ومثله الأحكام السلطانية للماوردي.

ماهية النظريات الفقهية

يقول الدكتور الزرقا في بيان ماهية النظريات الفقهية: “نريد من النظريات الفقهية الأساسية، تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى التي يؤلف كل منها على حدة نظاما حقوقيا موضوعيا منبثا في الفقه الإسلامي كانبثاث أقسام الجملة العصبية في نواحي الجسم الإنساني وتحكم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شعب الأحكام. وذلك كفكرة الملكية وأسبابها، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه، وفكرة الأهلية وأنواعها، ومراحلها وعوارضها، وفكرة النيابة وأقسامها، وفكرة البطلان والفساد والتوقف، وفكرة التعليق والتقييد والإضافة في التصرف القولي، وفكرة الضمان وأسبابه وأنواعه، وفكرة العرف وسلطانه على تحديد الالتزامات، إلى غير ذلك من النظريات الكبرى التي يقوم على أساسها صرح الفقه بكامله، ويصادف الإنسان أثر سلطانها في حلول جميع المسائل والحوادث الفقهية.” ( المدخل الفقهي العام (1/329)

وفي تعريفها أيضا يقول الدكتور جمال الدين عطية : ” تصور يقوم بالذهن، سواء استنبط بالتسلسل الفكري المنطقي، أو استمد من استقراء الأحكام الفرعية الجزئية ” [( التنظير الفقهي ، ص 9)]

صعوبة بناء النظريات الفقهية

إن بناء النظريات الفقهية ليس مجرد جمع معلومات وإعادة ترتيب لها، فالمدونات الفقهية التراثية تزخر بالمعلومات الجزئية المتناثرة ، كما أن بناء النظرية الفقهية لا يتوقف عند إعادة صياغة هذه المعلومات على صيغة مرتبة ترتيبا موضوعيا أو معجميا كما هو الحال مثلا في الموسوعة الفقهية الكويتية، حيث تجد فيها مثلا كل ما تحتاجه تحت عنوان واحد جامع للجزئيات المتشابهة، فتجد مثلا تحت عنوان ( انحناء) حكم الانحناء في الصلاة، كما تجد حكم الانحناء أمام الملوك والرؤساء والطغاة.
فالنظرية الفقهية لمفهوم ما، تسبر أغوار الجزئيات المتناثرة لتتساءل عن فلسفة الأحكام ومنطلقاتها، لتصل من وراء ذلك إلى تقديم حِكَم وغايات تشريعها، والقواعد والأسس التي قامت عليها، وربط جزئياتها للوصول إلى القواعد الحاكمة التي تتألف منها النظرية العامة.
وبدون هذا البناء المتكامل، فإننا سنجد أنفسنا أمام كتاب يحمل عنوان ( النظرية الفقهية في كذا) لكننا عند استعراض مباحثه سنجد أننا أمام كتاب يعرض للجزئيات والفروع عرضًا منظمًا ومرتًبا تحت ذات العنوان، وما لهذا اخترع التأليف على طريقة النظريات الفقهية.

مؤلفات في النظرية الفقهية

ظهر تحدت هذا العنوان مجموعة كبيرة نوعًا ما ، منها “نظرية العقد في الفقه الإسلامي”، للشيخ شوكت العدوي، و”الملكية ونظرية العقد”، للشيخ محمد أبو زهرة، و”نظرية العقد”، و”نظرية الحق”، كلاهما للشيخ محمد سلام مدكور.

و”النظريات الفقهية”، ليوسف المرصفي، و”المدخل إلى الفقه الإسلامي العام”، للشيخ مصطفى الزرقا، ونظرية الالتِزام العامَّة، و”نظرية التقْعيد الفقهي”، للدكتور محمد الروكي، و”نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام”؛ للدكتور محمد فوزي فيض الله. نظرية المخاطرة في الاقتصاد الإسلامي… دراسة تأصيلية تطبيقة للدكتور عدنان عويضة، ونظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي للدكتورة نادية عقل.

 

أهمية النظريات الفقهية

أنها تيسّر حفظ المعلومات، وتهيئ لها سبيل التمكن من النفس، فكثيراً ما تتبدد المعلومات وتتلاشى من الأدمغة، وللنظرية دور يضاهي القاعدة في تثبيت المعلومة في الذهن؛فنظرية العقد مثلاً تتناول شروط العاقد مع قطع النظر عن نوع العقد، ولهذا يتسنى للطالب حفظ تلك الشروط مع تذكر الفوارق البسيطة؛ بخلاف ما إذا أثقل كاهله بحفظ عدد هائل من تفاصيل العقود المختلفة.

حسن عرض الإسلام: فطبق النظريات يستهوي الناظرين ويقرب الحقيقة لهم، وغير المسلمين يتعذر عليهم أن يطرقوا الأبواب باباً باباً ، وإنما يكتفون بقراءة عامة تعين على فهم التصورات الإسلامية. ومن هنا وجد الشيخ سعيد حوى ضرورة وضع مؤلف خاص يحمل عنوان ( الإسلام) حيث وجد أن المكتبة الإسلامية التي تتحدث عن الإسلام لا يمكنها أن تسد هذه الثغرة.

تسهل التقنين: وذلك بفتح أبواب التطبيق الرسمي للشريعة، وقد عنى القانونيون بالنظريات طمعاً في هذه الغاية.

دفع التناقض: حينما يتناول الفقهاء المسائل الفقهية قد تتناءى الديار بين أبوابها، فالفقيه حينما يكتب في البيع قد يذهل مثلاً عن أحكام الإجارة، فيشترط فيه ما لا يشترطه فيها والعكس، من غير بروز مبرر معتبر للتفريق بينهما، ولهذا فالنظريات تفتح الإدراك الذهني، ومن المهم أن يُعنى الفقيه بالأساليب التي تشجعه على ربط المعلومات وحسن رصفها ليتم بها كمال البناء، والنظريات من الأساليب المحققة لشيء من ذلك.

معيار للنقد وإدراك الفوارق: وذلك لأن الناظر حينما يجمع الصور المختلفة في المكان الواحد يمكنه أن يقارن بينها، والمقارنة طريق عملي لنقد الذات ومعرفة جوانب الخلل فيها.

فتح باب مسائل جديدة: فربما ناقش بعض الفقهاء مسائل في باب معين، وأغفلوا نظائرها في أبواب مشابهة، فقد تناقش مسألة من مسائل الضرورة في المسغبة ،ولا يتعرض لمثلها في الإكراه، وقد تناقش مسألة في البيع ولا يتعرض لنظيرها في الرهن،فتستفز هذه المسائل الباحث ليمعن النظر في حقيقة تلك المسائل في الباب الذي لم تتناول فيه…، ويستفيد من مسائل الأبواب الأخرى وشروطها وأركانها وأدواتها.

تعين على معرفة أسباب تعدد الأحكام، وتكشف كثيراً من الأستار المرخاة على أسرار الأحكام، وبذلك يظهر الرباط الوثيق بينها وبين المقاصد والعلل، والعلاقة الحميمة بينه وبين أسرار التشريع، فقد يقذف الشيطان بسهام الشك على جملة من الناس بأن الشريعة فرقت بين المتماثلين في الحكم وجمعت بين المتناقضين، فلماذا شرطت قبض الرهن وثمن السلم والعوضين في الصرف، ولم تشترط قبض المبيع في عامة صور البيع، وحرّمت بيع ما ليست عندك وأجازت لك السلم وما هو إلا صورة منه، والمتناول للنظرية حينما تواجهه هذه المسائل يدفعه الدافع الفطري والعلمي والشرعي إلى محاولة إدراك الفرق بين الأمرين. ( تأصيل منهج النظريات، أفلح بن أحمد الخليلي)

عيوب النظريات الفقهية

توقع السطحية في الكتابة: وذلك لأن عموم المواضيع يفتح للباحث أبواباً يصعب عليه سدها، ومن كل باب يندفع طوفان مسائل كثيرة، وكثرة المباحث تحول دون إمعان النظر في كثير من القضايا، بحيث تضحى ضحلة هشة، وهو ليس على الإطلاق؛ فالنظرية الحقيقية لا تشيد إلا عند كثرة القواسم المشتركة، وهذا يناقض غايات التخصّص التي توجّه إليها المعاصرون.

ضعف الاستقراء: وذلك حينما تتقاعس همة الباحث عن الاستقراء الحقيقي، وتقتصر على بعض لمسات من تلك الأبواب، لا بتتبع قواعد الاستقراء التي عليها البناء الشامخ.

الخلط بين المسائل، بحيث يغلب حكم فرد على بقية الأفراد، مع عدم التفطن للأحكام، أو إلباس قاعدة ثوب أخرى، وهكذا.

البعد عن الواقعية: من طبيعة النظرية العناية بالكليات والتصورات العامة، والتصورات العامة لا ترى أشخاصها في الواقع إلا على شكل أفراد ينتمون إلى ذلك العام، وبذلك تظهر ضرورة العناية بالأمثلة المتعددة، ولا يعارض ذلك مفهوم النظرية بل يحوّله إلى واقع حي، على أن هذا المقصد إنما يتحقق بالأمثلة الواقعية الميدانية التي يمر بها المجتمع المسلم.