بالعودة إلى حياة الصحابة الكرام بنظرة فاحصة وشاملة، نجد أن السعي في طيب الكسب الحلال وصلاح الأموال كان جزءًا أساسيًا من حقائق العبادات وجليل القربات لديهم. لم يقصروا مفهوم العبادة على الصلاة في المسجد فقط، بل حركوا أقدامهم في البحث عن الأقوات والأرزاق وفق قانون الشرع. أدركوا أن سلامة دين الإنسان تكمن في صون الوجه والعرض عن سؤال الناس وطلب أموالهم على وجه الاستعطاء.

وكيف لا، وقد استمعوا إلى نبي الأمة عليه الصلاة والسلام وهو يتلو عليهم آية ربنا:

{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)} [الملك]

وحفظوا عنه قوله عليه الصلاة والسلام:

  • لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ – …إِلَى الْجَبَلِ – فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ.[1]
  • مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.[2]
  • مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ.[3]

وعرفوا من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه كان تاجرًا وراعيًا للغنم. قال ابن عباس رضي الله عنهما:

كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا، -وكذا زكريا- وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرادًا، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه رعاة”[4]وهكذا.

التوكل على الله ومحاربة البطالة

تفقه الصحابة معنى أن الله هو الرزاق، ومعنى حقيقة التوكل عليه، فحاربوا البطالة والكسل والخمول وكرهوها أشد الكراهة. ونبذوا فكرة ادعاء التوكل المفضي إلى القعود عن العمل مع القدرة؛ وعدوها منكرًا من القول وزورًا، وقدحًا في العقيدة الإسلامية الحاثة على ضرورة اتخاذ الأسباب بعد الاعتماد على الله تعالى والاستعانة به.

  • هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:  جاء في ترجمته أنه أجر نفسه على تمرات بسقي الماء ليهودي.
  • وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني. وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الله إنما يرزق الناس بعضهم من بعض. وتلا قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]
  • وقال مرة مناديًا: يا معشر الفقراء، ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عالة على المسلمين.
  • وروي أنه لقي ناسًا من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون. قال: بل أنتم المتواكلون؛ إنما المتوكل الذي يلقي حبَّه في الأرض ويتوكل على الله عز وجل”.[5]

وهكذا استوعب الصحابة الكرام معنى العبادات على حقيقتها، فصاروا رهبان الليل للانقطاع التام إلى الله تعالى بأنواع من التعبد، وفرسان النهار بسبب الكدح والسعي، سواء في الجهاد أو بذل الجهد في أمر المعاش والتنمية الآثرة في النهوض بالمجتمع الإنساني.

أصول أموال الصحابة

ترجع أصول الكسب عند الصحابة إلى ثلاثة أقسام، وهي:

التجارة

للتجارة من قديم الدهر دور عظيم في نمو الأموال وتنمية الثروات وتسهيل الاستثمار في عالم البيع والشراء. وقد اشتهر أهل مكة بالتجارة نظرًا لمركزية المكان وشرفه ومكانة أهله. وكم للمهاجرين من أيادٍ بيضاء على تطوير الأنشطة التجارية في المدينة خلال فترة وجيزة معدودة بعد استقرارهم بها، لاسيما بعد إنشاء النبي عليه الصلاة والسلام السوق الخاص بالمسلمين المعروف بـ”بقيع الخيل”؛ تجنبًا لأسواق اليهود القائمة على الربا والرشوة والغش ونحوها.

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لولا هذه البيوع لصِرتم عالة على الناس.[6]

وحكى أبو هريرة شيئًا من هذا النشاط التجاري أثناء حديثه عن أسباب تفوقه في ضبط الحديث النبوي فقال: “إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول اللَّه ، يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.[7]

نماذج من تجار الصحابة المهاجرين الكبار

أبو بكر الصديق

كان أبو بكر رضي الله عنه رجلًا تاجرًا ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم، فكان يعتق منها ويقوي المسلمين حتى قدم المدينة بخمسة آلاف درهم، ثم كان يفعل فيها ما كان يفعل بمكة.[8]

كان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها، وربما كُفِيها فَرُعِيَت له، وكان يحلب للحي أغنامهم[9].

ثم لما تولى أبو بكر الخلافة، شوهد ذاهبًا إلى السوق ومعه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهما، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين! قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا: انطلق حتى نفرض لك شيئًا. ففرضوا له كل يوم شطر شاة رزقًا من بيت المال[10]، كي يتفرغ لشؤون المسلمين.

عمر بن الخطاب

كان عمر من تجار الصحابة الذين مارسوا صفقة البيع والشراء في الأسواق. كان يقول: “عليكم بالتجارة، لا تفتنكم هذه الحمراء على دنياكم، والحمراء يعني الموالي[11].

ومما أثر عنه من الأقوال في مهارة الحرفة التجارية قوله: “إذا اشترى أحدكم جملًا فليشتره عظيمًا سمينًا، فإن أخطأه خيره لم يخطئه سوقه”.[12]

من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب فيه شيئًا، فليتحول إلى غيره.[13]

ويبدو أن اهتمام عمر بشؤون التجارة لم يمكنه من حضور بعض مجالس النبي عليه الصلاة والسلام، فأظهر تأسفه وتحسره على ذلك قائلًا: “ألهاني الصفق في الأسواق.

ولا يعد هذا حطًّا من منزلته رضي الله عنه، وإنما كان يأتي السوق لطلب الكفاف وما يقوى به على الجهاد وغيره، ليس للتفاخر والتكاثر[14]، وجمع بين الحُسنَيَين.

عثمان بن عفان

كان عثمان من أغنياء الصحابة كما لا يخفى، وكان خبير التجارة بيعًا وشراءً. يبيع الثياب والأطعمة على اختلاف أجناسها وأنواعها ويبيع أشياء أخرى. له مواقف مشرفة في نصرة الدين والمسلمين بالعطاءات والنفقات، وهو الذي جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بعشرة آلاف درهم من أرباح تجارته، ونثرها في حجر النبي فقال : “ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم[15].

واشترى بئر رومة بأربعين ألف درهم وقفًا للمسلمين.

بلغت عناية عثمان بن عفان بمزاولة التجارة إلى حد أنه رضي الله عنه لا يترك الاتجار أثناء الغزو.

يذكر في كتب التاريخ أنه أصاب الناس في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قحط، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج اللَّه عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برًّا وطعامًا. فغدا التجار على عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه. فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برًّا وطعامًا. بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة. فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صُفَّت في دار عثمان. فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة[16].

روي أنه سئل عن سبب علو شأنه في ساحة التجارة فقال:

كنت أعالج وأنمّي ولا أزدري ربحًا، ولا أشتري شيخًا، وأجعل الرأس رأسين[17].

وفي طيات هذا الكلام خمس نقاط أساسية لمهارات التجارة:

  1. أعالج: يعني أنه يتكبد تحديات التجارة بنفسه مباشرة دون اليأس والقنوط.
  2. أنمّي:   أي كان يوسع دائرة تجارته بزيادة الاستثمار فيها قدر الاستطاعة.
  3. لا أزدري ربحًا: أي لا يقلل من قدر الربح الحاصل مهما قلَّ قدره.لا أشتري شيخًا:  يعني أنه كان يجتنب شراء السلعة غير المرغوب فيها لقدَمها أو لكسادها في السوق.
  4. أجعل الرأس رأسين: يعني أنه يحتاط في التجارة فينوِّع في أنواع البيوع حتى لا يخسر جميع رأس المال.

بهذا النهج والتفكير الاحترافي، استطاع عثمان أن يتفوق في إدارة التجارة والاستثمار بطريقة ناجحة، فصارت الخطوات العثمانية الخمسة من القواعد الكبرى التي يسير عليها أرباب الأموال والتجارة في هذا الزمان.

عبد الرحمن بن عوف

قال أبو عمر بن عبد البر عن عبد الرحمن بن عوف:

كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، وكسب مالًا كثيرًا، وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، فكان يدخل منه قوت أهله سنة![18]

وعن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن عوف؛ ثُلُثٌ يُقرِضهم ماله، وثُلُثٌ يقضي دَينهم بماله، وثُلُثٌ يصِلهم[19].

وقال الإمام الزهري: “تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله على عهد رسول الله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفًا، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكانت عامة ماله من التجارة.[20]

وقد بدأ حياته بالمدينة من الصفر بلا شيء، ولم يرضَ الإثراء على حساب الغير ورفض عرض أخيه في الإسلام سعد بن الربيع لما قدم له شطر ماله وإحدى زوجتيه في قصة مشهورة، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق[21].”

وبدأ تجارته من أقط وسمن في سوق قينقاع وظل يغدو ويروح إلى أن صار أغنى الصحابة.

يمكن تلخيص سر نجاح تجارة الصحابة في ثلاث نقاط، وهي:

  1. حسن الاعتماد على الله والثقة به.
  2. السعي في الكسب والعمل الدؤوب.
  3. الالتزام بالأحكام والأخلاق الإسلامية.

الحرث (الزراعة)

تمثل الزراعة مصدرًا أساسيًا في حياة الصحابة والناس بشكل عام، ومدخلًا كبيرًا من مكاسب الحلال، لما لها من أهمية في توفير الأمن الغذائي وتعزيز الحركة الاقتصادية وتيسير فرص العمل لكثير من الناس، ولما فيها من تطوير العمران وإحياء الأراضي الموات، وغير ذلك من فوائد الزراعة.

دخل النبي عليه الصلاة والسلام على أم مبشر الأنصارية في نخل لها فقال:

ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة[22].

وقال : “من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه.[23]

وقال عليه الصلاة والسلام: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها؛ فله بذلك أجر[24].

وحسبنا بهذا الإرشاد النبوي عن قيمة الزراعة ومكانتها، والصحابة هم رواة تلك الأقوال النبوية ونحوها، ولذا طبقوها في واقعهم المعاش. وكان عدد كبير منهم اشتغلوا بالزراعة سواء مباشرة أو بالأجرة، وإن كان أهل المدينة الأنصار أنشط في عمل الزراعة من المهاجرين كما تقدم في حديث أبي هريرة بلفظ: “وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم.

قال القسطلاني: “في الزراعة والغراسة”[25].

وهذا يرجع لطبيعة بيئة المدينة التي نشأوا فيها ولقلة الخدم.

كان عمر بن الخطاب يقول: اتقوا الله في الفلاحين، لا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب.

وقال أيضًا: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنوات لا يعمرها، فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها”[26].

وذكر في ترجمة طلحة بن عبيد الله أنه كان أول من زرع القمح في مزرعته بالمدينة، وكان يزرع على عشرين ناضحًا، مما يدخل منه قوت أهله سنتهم دون الحاجة لما يجلب من خارج المدينة[27].

وقد اشتهر بين الصحابة المزارعة، وهي المعاملة الزراعية بين العامل وصاحب الأرض، حيث يسلم صاحب الأرض للعامل على أن يكون ما يخرج من الأرض مشتركًا بين الطرفين حسب الاتفاق. قال البخاري: وزارع عليّ وسعد بن مالك وابن مسعود.

بل حُكي عن أبي جعفر أنه قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث، والربع”[28].

وهذا يدل على مدى انتشار النشاط الزراعي في حياة الصحابة على مختلف مستوياتهم.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل بالزراعة هو “أطيب المكاسب؛ لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد؛ ولما فيه من التوكل؛ ولما فيه من النفع العام للآدمي، وللدواب؛ ولأنه لا بد فيه في العادة أن يؤكل منه بغير عوض”[29].  والمقصود أن الحرث من أهم مصادر الكسب عند الصحابة الكرام.

الحرف والمهن

ثمة أنواع من المهن والحرف والصناعات السائدة في عهد الصحابة؛ احترفوها وبرعوا فيها واشتهروا بها، سواء من الرجال أو النساء، وذلك لتلبية متطلبات الحياة الفردية والاجتماعية، ولحرصهم على كسب الحلال وتنمية المهارات. فكتب التاريخ شاهدة على ظاهرة الحرف والمهن في أسواق الصحابة وحياتهم، دون نظرة ازدراء أو تعيير لأي مهنة مهما كان نوعها وطبيعتها، خلافًا لما كان عليه أهل الجاهلية من احتقار أهل الصنعة.

وقد رُوي أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي يسأله، فقال:

لك في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقدحٌ نشرب فيه الماء. قال:

ائتني بهما. قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده، ثم قال:

من يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال:

من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثًا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال:

اشترِ بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدومًا، فأتني به. ففعل، فأخذه رسول الله ، فشد فيه عودًا بيده، وقال:

اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يومًا. فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال:

اشترِ ببعضها طعامًا وببعضها ثوبًا. ثم قال: هذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة[30].

ومن المعروف في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقدر مكانة أهل الصنعة.

في كتاب “التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات” ذكرت أنواع من الحرف العامة الشائعة في عهد الصحابة الكرام.

الكسب الحلال البز

من مكاسب الصحابة الكرام

  • البزّ:

يقصد بالبزّ نوع خاص من الثياب أو متاع البيت من الثياب، ويقال لمن يشتغل به بزّاز. وعُرف سوق بالمدينة خاص بالبزّازين. قال ابن قتيبة في “المعارف” في صنائع الأشراف: كان عثمان بزّازًا. وعن قتادة قال: حمل عثمان على ألف بعير وسبعين فرسًا. وكل ذلك مما اكتسب من المال بحرفة البزّازة إذ لم يكن يحترف بغيرها.

كذلك طلحة بن عبيد الله قيل: إنه كان بزّازًا، وكانت غلته ألفًا وافِيَةً كل يوم.

  • الخرازة:

وهي عملية تحويل الجلود إلى أثاث أو أحذية أو أشياء أخرى. وذكر في ترجمة أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها من صناع اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق به في سبيل الله.

  • النساج والخياط:

هم الذين يقومون بنسج الثياب وحياكتها. في حديث سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة منسوجة… فقالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي فجئت أكسوكها. وممن عُرفوا بحرفة النساجة: الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وعامر بن كريز.

وفي “المعارف” لابن قتيبة: كان عثمان بن طلحة الذي دفع إليه النبي مفتاح الكعبة خياطًا.

وفي الصحيح: أن خياطًا دعا رسول الله لطعام صنعه له. والزبير بن العوام كان خياطًا.

  • النجار:

دلت قصة صنعة المنبر النبوي على شهرة مهنة النجارة بالمدينة، وأن هناك أناسًا يشتغلون بها معروفين بإتقانها. وقد ذُكر من باب الجمع بين الروايات في قصة المنبر أن سبعة من المحترفين بالنجارة اجتمعوا على صنع منبر النبي من طرفاء الغابة، عملوه ثلاث درجات.

كذلك يوجد في ذلك الوقت بعض الحرف والمهن المشهورة، مثل: الحدادة، والصياغة، والدباغة، والخِواصة، والحجامة، وتعليم وتعلم القراءة والكتابة، وعدد كبير من الأمور المهنية والاحترافية والصناعية القائمة على الطاقات العقلية والفكرية والبدنية. وهي أيضًا تمثل مصدرًا من مصادر دخل الرزق، ومن ينابيع ثروات الصحابة الكرام.

الحاصل أن حياة الصحابة المعيشية عبارة عن حركة اجتماعية ثقافية متكاملة، وكل واحد منهم قد سعى في كسب الحلال تاجرًا أو مزارعًا أو محترفًا وصانعًا. كانوا يعملون بجد واجتهاد وتوكل، فترفعوا بالعفة والديانة عن أكل الحرام، وارتقوا بالنظام الاقتصادي الإسلامي المحكم المبارك.

دعوة للاقتداء بالصحابة الكرام

ليكن لنا فيهم أسوة حسنة في طلب الكسب المشروع، وعدم الإثراء على حساب الغير من الطرق غير المشروعة. وليكونوا لنا قدوة حسنة في مسيرة الحياة السعيدة كما كانوا لنا قدوة حسنة في أمور ديننا الحنيف.