في واحد من أهم كتب عباس العقاد: «اللغة الشاعرة» تناول فيه اللغة العربية ومكانتها بين لغات العالم الحيّة في الشرق والغرب، وكيف أجمع علماء اللغات على أن هذه اللغة تتراءى فيها طبيعة أهلها بصفاتهم وصفات أوطانهم من كلماتهم وألفاظهم، كما يتراءى لنا من هذه اللغة أطوار المجتمع العربي من مادة الألفاظ ومفردات الأسلوب الواقعي والأسلوب المجازي.
وهذه الحقيقة التي أشار إليها العقاد يمكن توثيقها بمتابعة المعاجم العربية، ذلك أن مفردات هذه المعاجم تعكس طبيعة المجتمع العربي بكل مستوياته وبكل ثقافاته، بدءاً من المفردات التي تتناول بدايات التكوين لهذا المجتمع في كتله الكبرى وفي كتله المتوسطة ثم الصغرى، وفي تجمعاته الموحدة والمتفرقة، فعلى مستوى الكثرة الجماعية نتابع مفردات: (الأمة والشعب والقوم والجماعة)، وعلى مستوى التكوينات المحددة جماعياً، هناك مفردات: (القبيلة والعائلة والجيل والطائفة والفئة)، وعلى مستوى البيئة السكنية، هناك مفردات: (الدار والبيت والمنزل والخيمة)، وعلى مستوى البيئة الطبيعية العلوية، هناك: (السماء والنجوم والشمس والقمر والمطر والغيث والسحاب والرياح، والطبيعة الأرضية لها مفرداتها من مثل: (الصحراء والجبال والرمال والصخور)، وعلى مستوى وسائل التنقل، هناك: (الخيل والبغال والحمير والجمال)، ثم تتابع المفردات الحيوانية من الغزال والبقر والغنم والكلاب وغيرها من المفردات التي صاحبت المجتمع العربي في بداياته وفي تحولاته الحياتية والثقافية، ومن يقرأ كتاب (الثعالبي) «فقه اللغة وسرّ العربية» يقف على حقيقة اللغة العربية ومدى تعبيرها عن الهوية العربية في النشأة، ثم مرور المجتمع بمجموعة من التحولات الحضارية والثقافية التي استدعت مفردات جديدة تعبر عنها، وقد جمع الثعالبي من مفردات اللغة العربية ما يتصل منها باللون والمرض والدواء والحيوان والإنسان والملبس والسلاح والطعام والشراب والزرع والنبات والزمن.
إن متابعة المعجم اللغوي في مفرداته الدالة على الهوية العربية، سوف تقدم لنا كماً هائلاً من هذه المفردات المعبرة عن الهوية الفردية والجماعية، وهي مفردات مازالت حاضرة في الذاكرة، وحاضرة في الاستعمال الحياتي والفكري، لكن كثيراً من دلالات هذه المفردات قد هجرت معانيها القديمة وامتلأت بدلالات جديدة تناسب التطور الحضاري للمجتمع العربي، من ذلك مثلاً: (السيارة) التي كانت تدل قديماً على (القافلة التي تسير)، ومفردة (القطار) التي كانت تدل على: (قافلة الجمال التي يتبع بعضها بعضاً)، وكذلك: (الطائرة والمدفع والدبابة والدراجة)، وقد تغيرت دلالتها لتعبر عن مجموعة من أدوات الحضارة، دون أن ينفي ذلك وجود علاقة بين المعنى القديم والمعنى الجديد.
ويكفي هنا أن نتابع – فقط – معجم (الزمن) لندرك مدى تعبيره عن الهوية العربية الزمنية، ولن نعرض هنا لما أسماه النحاة (ظرف الزمان) برغم أهميته في هذا السياق، كما لن نعرض لصيغة (الأفعال) بكل بعدها الزمني (الماضي والحاضر والمستقبل)، وإنما نعرض للصيغة الاسمية التي تابعت الزمن متابعة جزئية وكلية وجغرافية، فساكن البادية له مفرداته الزمنية الملائمة له مثل: (البكرة والضحى والغدوة والظهيرة والقائلة والعصر والأصيل والمغرب والعشاء، ثم الهزيع الأول من الليل، والأوسط والسَّحر والفجر والشروق)، ثم تأتي مفردات الزمن المحددة بالساعات والدقائق، ثم يتسع الزمن لاستيعاب المواسم والفصول والسنة والحول والقرن، ثم يضيق بعض الشيء مع مفردات (الليل والنهار)، ثم يضيق أكثر مع مفردات (الوقت والمدة والبرهة والفترة والردح).
إن هذا الوعي الزمني الذي احتفظت به الذاكرة اللغوية يكشف عن أن هذه اللغة امتلكت مجموعة من الحقول الصياغية المعبرة عن الهوية الثقافية للمجتمع العربي، أي أنها صيغ ثقافية بالدرجة الأولى لها طبيعتها التراكمية القادرة على ملاحقة الحاضر بكل قفزاته الحضارية والثقافية والعلمية..