قصة فريدة في الإسلام، لكن الكثير من تفاصيلها غير معروف، رغم أنها تكشف عن قدرة الإسلام أن ينتصر بقوته الذاتية، ورؤيته التوحيدية، ومبادئه السامية، وإمكانياته الإقناعية، لارشاد الناس إلى طريق الخلاص، إنها قصة إسلام ” رولاند جورج ألانسون” أو اللورد هيدلي” أو “الفاروق رحمة الله” الذي قرر وهو في الثامنة والخمسين من عمره، أن يشهر إسلامه علانية، مقتفيا طريق “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، وأن يهب الاثنتين وعشرين عاما الباقية من حياته لخدمة الإسلام.
مع الإسلام
ولد اللورد هيدلي عام 1855م، في أيرلندا، ونشأ مسيحيا بروتستانتيا، من أصولة نبيلة، وعلى قدر من الثراء، تلقى تعليما مميزا واستقر به الحال مهندسا مدنيا، وتولى أول وظائفه في الهند البريطانية عام 1896، واشرف على مشروع تشييد طريق في جامو وكشمير، وهنا كان لقاءه الأول مع الإسلام ، وبجانب الهندسة، كان مهتما بالملاكمة وفي عام 1899 الف كتابا عنها.
تعرض اللورد هيدلي في بداية حياته لأزمات نفسية بعد فقدانه لاثنين من أطفاله، وتم معالجته نفسيا، لكن هذه الأزمة قربته من مفهوم الإيمان، وجعلته يبحث عن اليقين بعد شفائه، وفي العام 1913 قرر أن يتحول إلى الإسلام، فاحتل نبأ إسلامه عناوين الصحافة العالمية، نظرا لمكانته الاجتماعية في بريطانيا باعتباره “لورد” أي من النبلاء وأصحاب المقام الرفيع ، كما أن اعتناقه للإسلام علانية كان حدثا جديدا، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته كأهم زعيم مسلم في بريطانيا وفي أوروبا خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
يقول عن تأثير رحلاته للشرق في تقريب مفهوم الإسلام إليه: “يجب أن أعترف أيضًا بأن الزيارات إلى الشرق قد ملأتني باحترام عميق جدًا للإيمان البسيط للمحمديين، الذين يعبدون الله حقًا طوال الوقت وليس فقط يوم الأحد، مثل العديد من المسيحيين، ثقتهم الجميلة في الله القدير والخالق الرحيم، الذي لا يغيب عنهم أبدًا لحظة من النهار أو الليل، يوقظ أحاسيس التعاطف الشديد في قلبي “.
كان فشل الكنيسة في مواجهة التحديات الاجتماعية أحد الأسباب التي دفعت “هيدلي” للبحث عن الإيمان، فقد رفض فكرة الكهنوت وأن توجد واسطة بين الإنسان وخالقه، ومع تواصله مع أحد القيادات الإسلامية وهو “خواجة كمال الدين” اقترب أكثر من الإسلام.
طرق الإسلام بريطانيا في تلك الفترة التي توصف بأنها “العصر الفيكتوري”[i]، وأخذ يستقطب رجالا من النخبة البريطانية[ii]، فرغم تراجع القوة السياسية للإسلام مع ضعف الخلافة العثمانية ثم سقوطها، إلا أن الإسلام كان يمتلك من الدفع الذاتي والقدرة على الجذب، ما أغرى الكثير من النخبة البريطانية باعتناق الإسلام.
عمل اللورد هيدلي بلا كلل من أجل نشر الاسلام في بريطانيا فنشر الكثير من المقالات في مجلة ” Woking Mission”[iii] وفي مجلة Islamic Review[iv]، وفي عام 1914 أسس الجمعية الاسلامية البريطانية، وألف عددا من الكتب عن الإسلام، منها: “ثلاثة أنبياء كبار” The Three Great Prophets ، وكتاب “أفكار للمستقبل” Thoughts for the Future ووثق فيه بدايات حياته، وخطواته نحو الإسلام، كما ألف كتاب ” صحوة غربية على الاسلام” A Western Awakening to Islam، مقدما فيه صورة مشرقة للإسلام للمواطن الغربي، ومؤكدا أن الإسلام هو خياره الصحيح، وتعرض فيه لعدد من القضايا مثل، مكانة المرأة في الإسلام، والشريعة، وأسباب سوء فهم المجتمع للإسلام، كما عمل “هيدلي” على تحويل الوجود الإسلامي في بريطانيا ليأخذ شكلا مؤسسيا ورسميا ومعترفا به.
لم تكن فكرة إعلان الإسلام رائجة في ذلك الوقت، لكن “هيدلي” أصر أن يكون إسلامه في العلن وواضحا وهو ما جلب عليه الكثير من العداوات، نظرا لأن تلك الفترة، كان العالم يقترب فيها من أزمات كبرى وصلت لذروتها في الحرب العالمية الأولى، وكان مفهوم تنازع الولاء يطرح نفسه، لذا نظر البعض إلى البريطانيين الذين اعتنقوا الإسلام على أنه خانوا عرقهم وثقافتهم ودينهم، لذا كان “هيدلي” رغم مكانته الاجتماعية، تحت أعين الأجهزة الأمنية البريطانية، أثناء رحلاته للخارج، وبخاصة بعد انغماسه في القضايا السياسية في الشرق.
الطريق إلى مكة
عشر سنوات فصلت بين إسلام “هيدلي” ورحلته للحج، إذ لم يستطع أداء الحج بعد إسلامه لنشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم تعطل مساعيه بعد ذلك، حتى جاءت الرحلة عام 1923، وأداها باسمه كرجل انجليزي، مع صديقه خواجة كمال الدين ، إمام مسجد ووكينغ، وقد أكرم ضيافتهم الشريف “حسين”، وعاني “هيدلي” في حجه من شدة الحرارة، إذ جاءت الرحلة في صيف شهر يوليو، فتحمل الحر بنفس راضية طيبة، وقضى أياما في الحج نائما على الأرض ، كغيره من الحجيج.
كانت الاشاعات تلاحق “هيدلي” أثناء حجه، والذي جاء مع معاهدة لوزن الثانية التي وقعت في شهر يوليو 1923 بين تركيا والدولة الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى، فأشيع أن “هيدلي” ذهب لمكة في مهمة سرية لبريطانيا، فقد كان حجه مثار اهتمام عالمي، لذا تمت متابعة الرحلة في الصحافة العالمية.
تأثر “هيدلي” في رحلته للحج بروح الإخوة العالمية التي يبثها الإسلام في أتباعه، فعندما رست السفينة التي تقله في ميناء “بور سعيد” بمصر، تم استقباله بحفاوة بالغة، من كبار الأعيان، ثم انتقل بحفاوة أخرى إلى القاهرة وقضى بها ثلاثة ايام، وكذلك في الاسكندرية، واحتلت أخبار زيارته صحف القاهرة
وفــاته.. كان “هيدلي” الشخصية المسلمة الأكثر شهرة في بريطانيا، والمتحدث الرئيسي باسم المسلمين في بريطانيا، لكن مع اقترابه من عامه الخامس والسبعين، أخذت صحته تتدهور، وتراجع حضوره في الشأن العام، لكنه لم يدخر جهدا في التعريف بالإسلام ونصرة قضاياه حتى وفاته 22 يونيو 1935، وهو في الثمانين من عمره.
1- هو فترة حكم الملكة فكتوريا (1837 – 1901) ويرى المؤرخون أن العصر الفكتوري هو عصر الثورة الصناعية الأولى في العالم وذروة الإمبراطورية البريطانية، استمر حُكم الملكة فكتوريا 64 عامًا، وهي فترة بلغت فيها الثورة الصناعية في بريطانيا قمتها ثم امتدت إلى أوروبا ثم الولايات المتحدة الأمريكية وكانت أعلى نقطة في الإمبراطورية البريطانية.
2- حسب الاحصاءات قُدر عدد المسلمين في بريطانيا عام 1924 بعشرة آلاف شخص، منهم ألف شخص اعتنق الاسلام
3- أسسها خواجة كمال الدين أحد رواد الإسلام في الغرب في فبراير 1913 ، وظلت لأكثر من 55 عامًا المطبوعة الإسلامية الرئيسية في الغرب
4- The Islamic Review أسسها خواجة كمال الدين، وكانت للمجلة شعبية بين المسلمين الناطقين بالإنجليزية، خاصة النخبة المسلمة في الغرب