إن النظم الوضعية في العصور الماضية والسائدة اليوم (من رأسمالية واشتراكية وضعية) تجعل من الرفاه والغنى وتحصيل المال الغاية الوحيدة المطلقة التي يسعى الفرد والمجتمع والدولة لنيلها والوصول إليها، لذلك كانت حضارتها على مرِّ التاريخ وإلى اليوم حضارة مادية بحتة؛ مُجردة من المبادئالأخلاقية والإنسانية.

أمّا الحضارة الإسلامية فمنذ عصر النبوة وإلى الآن هي حضارة إنسانية فعّالة ومغطاة بالأمور الأخلاقية العالية التي جاء بها الإسلام الحنيف، وهي تستخدم كافة الوسائل الاقتصادية والمالية لأجل إسعاد الإنسان، وإخراجه من تحت الظلم والاستغلال والفقر، وتوجيهه نحو خيري الدنيا والآخرة.

تكمن فلسفة الإسلام في الثروة في أن المال والثروة وسيلة وغاية في آن واحد، وأن الثروة ليست هي الهدف المطلق ولا الوسيلة المطلقة في النظام الاقتصادي الإسلامي، وإنما طريق نحو شيء أسمى هو رضا الله تعالى في الدنيا والآخرة. ومن هنا جاءت مبادئ أساسية في الإسلام مثل الزكاة والصدقات والوقف ومنع الربا والاحتكار والغش والتدليس وغيرها لضمان توزيع الثروة، ومنع استئثار الأغنياء على الفقراء.

ويسمح الإسلام للناس بالسعي لاكتساب الثروة ضمن ضوابط محددة، فأباح للمسلم أن يجمع من الثروة ما يستطيع ضمن أحكام وضوابط الشريعة الإسلامية، وشرع تشريعات وتوجيهات تشجع على اكتسابه وتحصيله بما يكفل له حياة كريمة، قال الله تعالى:

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].

طرق تحقيق الثروة في الاقتصاد الإسلامي

طرق تحقيق الثروة في الاقتصاد الإسلامي[1]:

1- العمل: أهم طرق تحقيق الثروة هو العمل الذي ينمي المال ويزيده، وهذا يعني توجيه الجهد نحو التنمية عن طريق الاستثمار بجميع الوسائل والأساليب التي تخضع لقاعدة الحلال والحرام، ورفض ما يتعارض منها مع أحكام وضوابط الشريعة الإسلامية، أو التي يكون هدفها تحقيق النفع الخاص المطلق كالرأسمالية الوضعية والربح على حساب استغلال الآخرين، أو تحقيق النفع العام المطلق كالاشتراكية الوضعية والربح العام على حساب استغلال الربحية الفردية.

والعمل أحد عناصر الإنتاج الأساسية في الاقتصاد الإسلامي، ويتكون من جهد جسدي مثل العمل في الزراعة والصناعة والتجارة، أو جهد فكري مثل العمل في التأليف والقضاء والابتكار والإبداع، أو جهد جسدي وفكري في آن واحد كالأعمال الهندسية والطبية.

2- الربح: يحث الإسلام على العمل والكسب وتحقيق الربح غير المطلق، حيث يُعدّ الربح في الإسلام تنمية للمال نتيجة تداوله في عمليات التبادل التجارية المختلفة بالطرق الشرعية التي تخضع للربح أو الخسارة في آن واحد. ومن ضوابط الربح ما يلي:

أ- عدم أكل أموال الناس بالباطل.
ب- عدم الغش والتدليس والغرر.
ج- منع الاحتكار.
د- منع التجارة في السلع الضارة بالمجتمع.

حدّ الربح في الإسلام

الربح في التجارة ليس له حدٌّ معين في الإسلام، ومرده إلى تراضي البائع والمشتري؛ لقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ [النساء: 29].

ولم يأتِ في الشريعة قرآنًا ولا سنة شيء يقيّد الربح بنسبة معينة، بل تُرك هذا الأمر لتقوى التاجر المسلم، وسماحته، ومراعاته للعدل، والإحسان، ورحمته بالخلق، وهي مبادئ لا تنفك عن الاقتصاد الإسلامي والتجارة في مفهوم المسلم.

وقد جاء في السنة ما يبين جواز الربح الكبير، فعن الصحابي الجليل عروة البارقي رضي الله عنه:

“أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي له به شَاةً، فَاشْتَرَى له به شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إحْدَاهُما بدِينَارٍ، وجَاءَهُ بدِينَارٍ وشَاةٍ، فَدَعَا له بالبَرَكَةِ في بَيْعِهِ، وكانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ.” (صحيح البخاري 3642)[2].

[ليس في الشرع المطهر تحديد للربح، وقول من قال: إنه يحدد بالثلث، قول ضعيف لا دليل عليه، والصواب أنه لا حدَّ في ذلك، ولكن يشرع للمؤمن أن يتحرى الربح المناسب في حقّ أخيه، بحيث لا يشقّ عليه ولا يثقله، فيتحرى في كلِّ مقام ما يناسبه، وليس هناك حدٌّ محدود، قد يكون الربح خمسة في العشرة، قد يكون خمسة في المائة، وقد يكون عشرة في المائة، قد يكون أكثر وقد يكون أقل على حسب أحوال من عليه الدّين، وعلى حسب الآجال، قلة وكثرة وطولًا وقصرًا، فالبيعان يتحريان ما فيه الخير للجميع والسهولة على الجميع.][3].

المال أساس لقيام المجتمع الاسلامي

يقول الله تعالى: [وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا][النساء: 5]

ففي هذه الآية الكريمة نجد كلمة: ” أَمْوَالَكُمُ ” في مقابل كلمة: ” قِيَامًا ” وهذا يعني أن الله تعالى: [جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم][4].

ونجد فيها كذلك أن الأموال قد أضيفت إلى ضمير المخاطبين وهي إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء؛ لأن في حصوله منفعة للأمة كلها؛ لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالمصلحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها، ويستأجرون، ويشترون، ويتصدقون، ثم تورث عنهم إذا ماتوا، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها، فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس، تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضَنْك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى؛ وذلك من أسباب ابتزاز عزهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين؛ ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة”.

فجعل سبحانه وتعالى الأموال ” قِيَامًا ” للناس، تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم، ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام هذه الكلمة، ويبلغ ما تصل إليه من البلاغة في الحث على الاقتصاد، وبيان فائدته ومنفعته، والتنفير عن الإسراف، والتبذير الذي هو شأن “السُّفَهَاء” وبيان عاقبته وسوء مغبته؛ فكأنه قال: إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم، الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها، ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها، فإذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين الذين يتجاوزون الحدود المشروعة، والمعقولة يتداعى ما كان من تلك المنافع سالماً، ويسقط ما كان من تلك المصالح قائماً، فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال كالأمور كلها؛ ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: (وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].

فهذه الآية شارحة للفظ ” قِيَامًا ” في الآية التي نحوم حولها،  وقد نهانا القرآن عن التبذير، حتى في مقام الإنفاق والتصدق، وجعل المبذر كالشيطان مبالغاً في الكفر، وبيَّن سوء عاقبة المتوسع في النفقة إلى حدّ الإسراف، كما في قول الله تعالى: ( وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26-27][5].

المال وسيلة وغاية في آن واحد

المال وسيلة لإسعاد المسلم في حياته الدنيا وفق الأحكام الشرعية؛ وغاية لإعمار آخرته، لأن الدنيا مزرعة الآخرة؛ والمال أكبر وسيلة لتحقيق كِليهما؛ ويجب الاهتمام بهما في آن واحد وبشكل متوازن ؛ فبهما يسعد المسلم في الدنيا والآخرة. فالمال في الإسلام زينة ومتاع، وزينة الدنيا ومتاعها زائلان، والقيمة الكبرى هي لمتاع الآخرة، ولذلك وجهنا القرآن الكريم إلى طلب الآخرة بهذا المتاع الذي أعطانا الله إياها، قال الله تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (القصص: 77).

المال في المنظور الاسلامي وسيلة وغاية في آن واحد، من دون إفراط أو تفريط؛ ومن دون ضرر أو إضرار، فهو وسيلة وغاية منضبطة بالضوابط الشرعية:

أ- فهو وسيلة لتطبيق مبدأي الاستخلاف والتسخير؛ ثم هو وسيلة لإعمار الأرض، ولولا هذه الوسيلة لما يستطيع الانسان الوصول الى النشاطات الاقتصادية الشرعية من انتاج واستهلاك واستثمار وتوزيع وتأسيس شركات ينادي بها الشريعة الاسلامية وغيرها، فالمال هو عصب الحياة وأساس للتنمية البشرية والاقتصادية.

ب- وهو الغاية التي يريد الاقتصاد الاسلامي تحقيقه لكل فرد من أفراد المجتمع الاسلامي، فالمال هو أساس قيام المجتمع، وهو الذي يريد الشريعة الاسلامية إيجادها وتنميتها والمحافظة عليها لكل فرد، يقول الامام الغزالي رحمه الله تعالى: “إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة][6].

وسبب الاهتمام بهذه الضرورات الخمس: [ لأن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انحرفت لم يبق للدنيا وجود من حيث الانسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها.. فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى. ولو عدم الإنسان لعدم من يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التدبير. ولو عدم النسل لم يمكن البقاء عادة. ولو عدم المال لم يبق عيش][7].       

المال خضرة حلوة

إن المال خضرٌ حلو إذا أخذ من حلِّه وإذا أنفق في حقِّه؛ قال رسول الله : [إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ ما أعْطَى منه المِسْكِينَ واليَتِيمَ وابْنَ السَّبِيلِ -أوْ كما قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وإنَّه مَن يَأْخُذُهُ بغيرِ حَقِّهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ، ويَكونُ شَهِيدًا عليه يَومَ القِيَامَةِ.] [ صحيح مسلم-رقم الحديث:1052].

وقال عليه الصلاة والسلام: [ لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ ][ صحيح مسلم-رقم الحديث: 1048]، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، والانسان مفطور على حب المال، قال الله تعالى: [وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ][ سورة العاديات – الآية 8], ويقول رسول الله : [يَهْرَمُ ابنُ آدَمَ وتَشِبُّ منه اثْنَتانِ: الحِرْصُ علَى المالِ، والْحِرْصُ علَى العُمُرِ.][ صحيح مسلم-رقم الحديث: 1047]، إلاّ أن السعادة بالمال يلزم لها شرطان[8]:

1- أن يكون المال صالحاً، أي حلالاً مكسوباً من حقه وهذا يعني أن صاحبه قد عمل وسعى في الأرض وأنتج وأنجز ونفع عباد الله تعالى وذاق حلاوة الإنتاج والإتقان قبل أن يذوق حلاوة المال، وحلاوة الإنجاز ألذ من حلاوة المال.

2- أن يكون صاحب المال صالحاً لا يطغى ولا يغتر ولا ينفق المال في فساد, فإنه إذا أنفقه في فساد كانت تلك نهاية سعادته وكان ماله وبالاً عليه.

المال غاية لتحقيق الاستقرار

المال وسيلة وغاية للوصول إلى رفاهية اقتصادية واجتماعية عامة:

عندما يعمل الاقتصاد الإسلامي على التقريب بين الأغنياء والفقراء من خلال الأدوات المالية الإسلامية كزكاة الأموال؛ فإن هذا لا يعني العمل على تنحية الأغنياء من غناهم وجعلهم فقراء أو مساكين أو قريبين منهم؛ بل يأخذ فقط نسبة معينة من أموالهم ويعطيها للفقراء والمساكين والمحتاجين؛ كفرائض وسنن عبادية، مما يكون تشجيعاً لهم للاستثمار والإنتاج الأكبر ولكسب دخول أزيد ومستويات أرفع لغناهم، وفي نفس الوقت تشجيع لآخذي الزكاة ليطوّروا مصادر دخولهم؛ ويحاولوا رفع مستوياتهم المعيشية واللحاق بالأغنياء والموسِرين، وهذا يعني أن الأصل الذي يستهدفه الاقتصاد الإسلامي من العمليات التنموية هو الوصول إلى الغِنى، أي جعل كافة أفراد المجتمع الإسلامي أغنياء؛ موسرين؛ مرتفعي المستويات المعيشية، وليس تفقيرهم أو تخفيض مستويات معيشتهم أو تقريبهم نحو الفقر والمسكنة، بعبارة أخرى إن مجتمع الاقتصاد الإسلامي هو مجتمع التطور والتنمية والغِنى؛ ونبذ الفقر والمسكنة والاحتياج؛ والاحترام غير المحدود للفقراء والمساكين والمحتاجين.

حفظ المال في الاقتصاد الإسلامي

حفظ المال في الاقتصاد الإسلامي[9]

إن الاقتصاد الإسلامي لا يكتفي بتلبية احتياجات الفرد والمجتمع الماديّة فحسْب، بل يلبّي أيضًا احتياجاتهما الروحية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تحقيق رفاهية شاملة لهما ؛ وإن فلسفة الاقتصاد الإسلامي تقوم على:

  • إيجاد وتطوير اقتصاد إنساني قائم على العدل والرحمة والمرونة والشمول، ومكافحة جميع أشكال الظلم والغِشّ والرشْوة والفساد والاستغلال.
  • مكافحة الفقر والعَوَز والحاجة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروات والموارد.

إن مقاصد الشرع في التصرفات الماليّة خمسة هي: روَاج الأموال، ووضوحها، وحفظها، والعدل فيها، وثباتها. وهذه المقاصد تمثل الغايات التي من أجلها شرعت العقود، والبياعات، والمعاملات، كما تمثل الحِكَم والأسرار وراء تحريم العديد من العقود والمعاملات التي تشكّل عَقبة في تحقيق هذه المقاصد.

فالمحافظة على مقصد الرّواج هي الغاية من تحريم الاكْتِناز والاحتكار والمحسوبية والفساد؛ باعتبارها جميعًا معاملات تضرّ برواج المال وتداوله في المجتمع، وأن المحافظة على مقصد الوضوح هي الغاية من تحريم بيوع الغَرَر والمعاملات القائمة على الجهالة، والغاية من المحافظة على مقصد الحفظ هي تحقيق كل ما سبق ذكْره أعلاه, كما أن المحافظة على مقصد العدل هي الغاية أيضًا من تحريم الربا، والرشوة، والتزوير، والاستغلال، والغبْن، والخداع، وأن الغاية من المحافظة على مقصد الثبات شرعت العقود التي تحقق الاستدامة والرفاهية الشاملة للفرد والمجتمع.

وهذه المقاصد مستفادة من المبادئ التي تقوم عليها نظرة الإسلام إلى المال وهي:

1- أن المال مالُ الله، والإنسان مُستخلَف فيه ومؤتمَن عليه، مما يعني ضرورة التزام الإنسان في تصرّفه في المال كسبًا وإنفاقًا وتمويلًا وفق ما شرعه الله تعالى له، ولا يجوز له مخالفة أوامره ونواهيه في المال، ذلك لأن الله تعالى هو المالك الحقيقيُّ للمال، كما تقوم تلك النظرة على اعتبار المال ضرورة من ضروريات الحياة التي يجب حفظها بتحصيله وتنميته وترويجه وإشاعته في المجتمعات.

2- اعتبار حبِّ المال غريزة وفطرة فُطِر عليها الإنسان، ولا يتعارض ذلك مع الشرع ما لم يخرج ذلك الحبّ عن الحدّ المشروع، كأن يُفْضي إلى احتكاره واكتنازه وتحصيله بالطُّرق المحرَّمة المحظورة.

3- وأخيرًا تقوم تلك النظرة على اعتبار المال وسيلةً وغاية في آن واحد، مما يجعل طريقة تحصيله واستهلاكه وإنفاقه وتمويله خاضعة لمدى تحقيقه المقاصد الشرعية المذكورة أعلاه.

ملاحظة: هناك كثير من العلماء يرون بأن نظرة الإسلام إلى المال تقوم على اعتبار: ” المال وسيلةً وليس غاية في حدِّ ذاته [10]” أو: المال في الإسلام وسيلة لا غاية، فهو وسيلة إلى مرضاة الله تعالى وليس هو غاية في حدّ ذاته”[11].

والباحث[12] يرى بأن المنظور الاسلامي للمال ضمن النظام المالي للاقتصاد الاسلامي يتكون من فقرتين متكاملتين هما: أ- المال في الاسلام وسيلة للوصول الى تحقيق أهداف وغايات التسخير والاستخلاف وإعمار الأرض.  ب- المال غاية وهدف للفرد والمجتمع المسلم للوصول الى خيري الدنيا والآخرة, باعتبار أن الدنيا مزرعة للآخرة.

  وهذا يعني أن المال وسيلة وغاية للدولة والفرد والمجتمع الاسلامي في آن واحد, فالمال هو وسيلة لقيام المجتمع, ولولاه لما يمكن الدخول الى النشاطات الاقتصادية والاستثمار والانتاج وغيرها, والمال غاية غير مطلقة للفرد المسلم؛ حيث يقوم بشتى الوسائل الشرعية الحصول عليه بهدف تحقيق النفقات الواجبة والتطوعية لديه, والقيام بتأدية جميع الإلتزامات الواجبة عليه تجاه نفسه وعائلته وأقاربه ومجتمعه والخيرات لآخرته.

ولا شك أن بدون غاية المال لن يتحقق أي نشاط اقتصادي واجتماعي في المجتمع, وينتج عن غيابها مجتمع خامل بعيد عن التطورات الاقتصادية الداخلية والعالمية؛ وتخلف اقتصادي رهباني هدام, وهو ضد ما يربوا إليه الاقتصاد الاسلامي, ومخالف للأحكام الشرعية.

لذلك فان المنظور الاسلامي للمال في الاقتصاد الاسلامي هو أن المال وسيلة وغاية في آن واحد ؛ للوصول الى تحقيق غايات أحكام تسخير ثروات السماوات والارض للإنسان؛ وجعله خليفة على الأرض واستخلافه على مواردها الاقتصادية وثرواتها؛ وطلب إعمار الأرض منه؛ ثم بالأخير تحقيق نظام اقتصادي واجتماعي مستقر ومطمئن للإنسان الخليفة؛ وتحقيق خيري الدنيا والآخرة له.