يأتي كتاب “المحاججة العقلية في برهنة حقائق القرآن: مطارحات النورسي للفكر المادي” تأليف “آماد كاظم البرواري” والصادر عن دار السبيل، عام 2021، في 460 صفحة، ليقترب من منهجية “النورسي” الحجاجية، وكيف استطاع أن يفند ويدحض المادية باللجوء إلى مناهجها ذاتها.
سأله بعض الطلبة: “عرِفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لا يذكرون الله لنا”. فأجاب النورسي:” إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن الله دوما، ويعرف بالخالق الكريم بلغته الخاصة، فأنصتوا لتلك العلوم دون المدرسين”.
تلك كانت إجابة المصلح التركي “سعيد النورسي” (1876-1960)، ذلك الرجل الذي ظهر في فترة أفول الدولة العثمانية، واشتداد المشروع العلماني والتغريبي، وانكماش المشروع الإسلامي، فجاء “النورسي” ليعيد الحيوية للفكرة الإسلامية، باحثا عن قوتها الذاتية في مواجهة المادية، التي تتخفى وراء التغريب، متخذا من الجدال والحجاج وسيلة لبعث الحماسة في الشخصية المسلمة.
طور “النورسي” في حجاجه مع الفكر المادي أساليب الحجاج القديمة التي استخدمها المتكلمون المسلمون، مُبعدا عنها الجفاف والتجريد المبالغ فيه، مُقربا حججه من العقل المعاصر، من خلال الاعتماد على العلوم والمعارف الحديثة .
فقد كان الرجل يهدف إلى إنقاذ الإيمان، والحيلولة دون أن يلقي الضعف السياسي بظلاله الكئيبة على القلوب المؤمنة، وأن يتحول إيمان الناس من الأفكار المجردة ليتجسد في حركة فاعلة على الأرض تحقق الشهود، وتبيين حقائق القرآن للناس خاصة في التوحيد والنبوة والإيمان بالآخرة، ويؤكد كتاب “المحاججة العقلية في برهنة حقائق القرآن”، أن “النورسي” جدد مسالك الحجاج وأساليبه، مستفيدا من أن الحجاج يوظف كثيرا من العلوم داخله كالمنطق والفلسفة واللغة والبلاغة والأصول للوصول إلى هدفه وغايته في تفنيد ونقض حجج الخصوم.
ما يمكن التقاطه من كتاب “المحاججة العقلية في برهنة حقائق القرآن” هو أهمية الحجة في الذود عن الإسلام، وألا يترك علماء الإسلام الشبهات التي تحوم حول القرآن لتنمو بلا ردود قوية ومقنعة، وألا يستصغروا أي شبهة، وأن ينظروا إلى جدالهم مع المخالفين على أنه فرصة لاعادة طرح رؤية الإسلام والقرآن بما يرسخ الإيمان.
الفهم ثم التفكيك
رأى “النورسي” أن الحضارة الغربية مبنية على أسس، منها: القوة والمنفعة والصرع والعنصرية، وهو تقود إلى المادية والاستغلال وتقسيم البشر إلى طبقات، لذا كان في حجاجه يسلك التفكيك والتفنيد والهدم لحجج الخصوم ونظرياتهم الإلحادية، وكان أول ما يفككه هو الفرضية المادية السببية، التي تزعم أن الأسباب هي التي أوجدت الحوادث، وأن الحياة جاءت صدفة، من تجمع الأسباب، وحاجج “النورسي” بأن تلك النظرة المادية لا يقبلها العقل المادي نفسه، فيستحيل على الأسباب أن تُوجد حياة عاقلة، كما أن الصدفة والعشوائية لن تستطيع أن توجد هذا الاتقان والتنظيم الذي تتسم به الحياة، ومن ثم كان منهجه الحجاجي يرتكز على الاحتكام لمعايير الخصوم في تفنيد شبهاتهم مستخدما أدلتهم نفسها.
كان النورسي عالما بأزمة الواقع الذي يعيش فيه، وتحديات الضغط الإلحادي، لذا لم يقتصر على الأدلة النقلية في إثبات أصول الدين، بل أضاف إليها ما يستلزم الاستدلال به من معارف وعلوم، وكانت لحظة خلق الكون من القضايا التي اهتم بها في حجاجه مع الفكر المادي، لأن رفض فكرة العدمية في الخلق، وكذلك الفوضوية والعشوائية والصدفة، سيحيل حتما إلى وجود خالق لهذا الكون، إذ لا بد للكون من بداية، وهذا ما أخذت العلوم الحديث تتحدث عنه، وهو ما يفرض وجود نهاية، نظرا لأن مكونات الكون تفقد حرارتها بالتدريج، مما يؤشر لفكرة النهاية.
كذلك لجأ “النورسي” إلى مسألة الفطرة في جداله مع الفكر المادي، لأن “الاستدلال السليم يفرض على عقولنا فكرة وجود الله”، لذا استحوذت الفطرة على اهتمام كثير من العلماء الغربيين الذين أشاروا أن إيمانهم يقوم على خبرة شخصية، ومعرفة داخلية، وأن الفطرة شيء موجود ومن الصعوبة إنكاره أو تحييده.
ويلاحظ أن “النورسي” سعى لعرض مفاهيم العقيدة خاصة التوحيد بحجج برهانية تقوم على مبدأ التوازن والشمول، ومنها برهان النظام والانسجام الكوني، فاستدل على التوحيد بإبطال نقيضه، أي إبطال وجود شركاء لله في الخلق، فالعقل والمنطق يرفض فكرة الشرك، كما كان يحاجج كل فريق بما يناسب أصول تفكيره، إذ عول على المُحالات العقلية المنطقية في تفكيك النظريات الفلسفية ونقضها من أصولها، مستشهدا بأمثلة واقعية تتضمن أقيسة منطقية لتقريب الصورة إلى الأذهان واستدراجها إلى الاقتناع والاقرار، لذا وجه نقدا شديدا إلى نظرية “دارون”، أما ما يناقض التوحيد فتحدث عن فساد مقولات الإلحاد في ذاتها.
مخاطبة العقل
كان النورسي في حجاجه يخطاب العقل، ويستفزه لكي يفكر، ويدحض المنطق الذي يقوم عليه الإلحاد، فمثلا تحدث عن استحالة أن تتشكل مادة حيوية مضادة للسموم صدفة أو عشوائيا، أو بدون صانع ماهر، هكذا يؤكد العقل، وانتقل من تلك الحقيقة ليدحض أدلة الإلحاد، فالكون البديع المتسق المتناغم، لا يمكن أن يكون وليد الصدفة أو العشوائية، أو أن يكون هو من خلق نفسه، وبالتالي وضع الحجج الإلحادية أمام مأزق منطقي وعقلي.
كان النورسي يلجأ إلى الاستدلال بالابداع في جسم الإنسان في حجاجه مع الإلحاد، وينطلق من الدليل المادي لهدم الإلحاد المادي ذاته، وكان ينتزع الدليل الأقرب إلى الاقناع في بناء حججه للبرهنة على صحة الاعتقاد، لذا لم يتواني في كشف زيف إسناد الخلق إلى الطبيعة، وعندما نقد نظرية دارون، رأى أنها فتحت أبوابا للحيرة والضلالة، لأن الله أعطي لكل شيء وجوده المستقل، فيقول: “إننا نرى وظائف المخلوقات تنسج على منوال الحكمة، وتُكال بميزان العدل..ونرى العدالة المطلقة تضع كل عضو من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتنسقه بموازين دقيقة وحساسة”، ومن ثم كان يستدل بالبرهان الكوني العلمي على اثباته وجود الخالق، فكان مُلما بعلم الاحياء، وهو ما أفاده في حجاجه، بل وفهمه للقضية التي يتحدث فيها.
اعتنى النورسي بمسألة النبوة، وتناولها في عدة رسائل، فالنبوة تكريم للإنسانية، وهي ضرورة كونية للإجابة على الأسئلة المستعصية في الوجود، لذا حلل السيرة النبوية بطريقة علمية، فيقول:” إن القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتما البشر من دون نبي، من دون شريعة، نعم.. هكذا يقتضي سر نظام العالم”، لذا يرى أن الرسل أجابوا عن ألغاز الأسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات: من أين؟ وإلى أين؟ ومتى تكون؟، ويستحيل أن يترك الخالق البشرية بلا جواب.
وفيما يتعلق بالحشر والقيامة، فإن الرجل أكد على وجود أدلة نقلية، يصعب الاستدلال عليها عقلا، لأن العقل لا يملك أدوات هذا الاستدلال فيقول: ” اتفق علماء الإسلام بأن قضية الحشر، قضية نقلية، أي: أن أدلتها نقلية، ولا يمكن الوصول إليها عقلاً، ولو اعتمد العقل على مقاييسه الكلية لظل عاجزاً مضطراً إلى التقليد”، إن نظرته المتجلية من أنوار القرآن إلى الغاية من الوجود، والمغزى من الحياة، والهدف من استخلاف البشر في الأرض، جعلته ينظر إلى القضايا الكونية والإنسانية من خلال أصولها وكلياتها، كما كان منصفا في حجاجه مع مخالفيه اذا اقتضى الأمر الاعتراف بإيجابيات المخالف.