نعم في شهر رمضان المبارك، مدارسُ إيمانية وعلميَّة عظيمة، ووقفات تربوية وأخلاقية سامية؛ يستغرق التعليم والتكوين والتربية في هذه المدرسة الجليلة؛ مدةً محدودة ومعدودة، كالدورات التي تعقد للتعليم والتدريب، وهي مدة شهرٍ قمري كامل؛ كما بيَّن الله تعالى هذه الأيام المَعدودات، فقال: (شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيه القرآنُ هدىً للناس وبيناتٍ منَ الهُدَى والفُرقان فَمَن شَهِد منكم الشَّهر فليَصمه) البقرة: 185.
وهذه المدرسة السَّنوية واجبةٌ وإجْبارية، على كل مُسلمٍ صحيح قادر مُقيم، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتبَ عليكم الصيام كما كتِب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون* أياما مَعدودات) البقرة:183.
وفي هذه المدرسة الرمضانية يتربَّى المُسلم، على جملةٍ من العلوم الشَّرعية المباركة؛ والتمرينات التربوية الإيمانية الفاضلة، والتي تنفعه في دينه ودنياه، نذِكر أهمّها فيما يلي:
1- قراءة القرآن الكريم وتدبره: فرمضان شهرُ القرآن، فيه أنزل القرآن الكريم؛ هداية للناس، كما في قوله تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزلَ فيه القرآنُ هُدىً للناسِ وبيناتٍ من الهُدى والفُرقان) وهذا مدحٌ للقرآن العظيم الذي أنزله الله تعالى هدىً لقلوب العباد، ممَّن آمن به، وصدَّقه واتبعه، (وبينات) أي: وهو دلائلُ وحُجج بيِّنة، واضِحة جلية؛ لمَن فَهمها وتدبَّرها، دالةٌ على صحَّة ما جاء به من الهُدى المُنَافي للضَّلال، والرُّشد المُخالف للغَي، ومُفرِّقاً بين الحقِّ والباطل، والحلالِ والحرام.
فقد مَدَح اللهُ تعالى شهر الصِّيام من بين سائر الشهور، واختصّه بأنْ اختاره منْ بينهن؛ لإنزال القرآن العظيم فيه، كما في الآية السابقة، وقد ورد في الحديث: بأنَّه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية السابقة؛ تنزل فيه على الأنبياء.
فعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله ﷺ قال : “أنزلت صُحف إبراهيم في أولِ ليلةٍ من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مَضِين من رمضان، والإنْجيل لثلاثِ عشرة خلتْ من رمضان، وأنزلَ اللهُ القرآن لأربعٍ وعشرين خلتْ منْ رمضان”.
وفي رمضان كان النبي ﷺ ومَنْ معه من الصَّحابة؛ والسلف مِنْ بعدهم؛ يتلون ويختمون القرآن الكريم ختماتٍ مُتعدِّدة؛ ويتدارسونه فيما بينهم، وكذا في صلاة التراويح والقيام؛ والتي فيها تلاوة كتاب الله تعالى في بيوت الله.
فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يَلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كلِّ ليلةٍ منْ رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله ﷺ حين يَلقاه جبريلُ أجودُ بالخَير مِن الرِّيحِ المُرسَلة”. متفق عليه.
قال ابن رجب رحمه الله: “دلَّ الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على مَنْ هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وخاصة ليلا؛ لأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن المدارسة كانت ليلا، ولأنَّ الليل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبُّر، كما قال تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) المزمل:6”. من لطائف المعارف (ص246).
ففي هذه المدرسة اليومية؛ لا بدَّ للمُسلم مِنْ تلّمس الهُدى من كتاب الله تعالى؛ بالتِّلاوة والفَهْم والتدبر؛ والتَّدارس والتَّعلم والتعليم؛ وحِفْظ ألفاظه وحُدوده وأحكامه .
وهكذا كان السَّلف رحمهم الله، فقد كان الزُّهري إذا دخل رمضان قال: إنَّما هو تلاوةُ القرآن، وإطْعام الطعام.
وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يتركُ الحديث، ويُقبل على المُصحف.
2- في مدرسة رمضان يتربَّى المُسلم: على الإخْلاص، ومراقبة الله في السِّر والعَلن، فهو يَمتنع عن شَهواته منْ طلوع الفَجر إلى غروب الشَّمس؛ طاعة لله تعالى وخَوفاً منه سبحانه، فلو شَاء لأكل وشرب حيثُ لا يَراه أحد منَ البشر، ثم يَخرج إليهم مُظهراً لهم أنه صائم، لكن تقوى الله، واستشعار مراقبته، منعاه من ذلك.
ولهذا في ورد الحديث القدسي: “والذي نفسُ محمدٍ بيده؛ لخُلُوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله منْ ريح المِسْك، يترك طعامَه وشرابَه وشهوته مِنْ أجلي، الصيام لي وأنا أجْزي به، والحَسَنة بعشرة أمثالها”. متفق عليه.
3- في مدرسة رمضان يتربَّى المسلم على الصَّبر: فالمسلم يتدرب في مدرسة رمضان على تقوية الإرادة؛ وقوة العزيمة؛ وشَحْذ الهمَّة، بالصَّبر والتصبر على الجوع والعطش، وعلى ترك المألوف والمُعتاد من الشهوات، وعلى القيام والسَّهر للصلاة، وتلاوة القرآن، بل والصَّبر على أذى الناس، بأنْ يدفع إساءتهم بالإحسان، ففي الحديث عن النبي ﷺ: “..وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه؛ فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ”. متفق عليه .
ولا يزالُ المُسلمُ الصَّائم يترقَّى في منازل الصَّبر، حتى يبلغَ مقام المحبَّة والمعيَّة للصابرين؛ قال الله تعالى: (والله يحب الصابرين) آل عمران: 146، وقال سبحانه: (واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال: 46.
4- في مدرسة رمضان يتربَّى المسلم على الجُود والكرم، والبذل في سبيل الله تعالى: والجُود والإنفاق خُلُق يُحبه الله؛ وحثّ عليه عباده؛ وهو مما يُزيِّن العبد؛ ويُمهد له الطريق إلى مَحبَّة الخالق سبحانه والمَخلوق، فيكون الكريم قريباً من الله تعالى؛ قريباً من الناس .
وهذه النِّعمة والخَصْلة ممَّا يَغيظ الشيطانَ اللعين، فلا غرو أنْ يقف للعبد في هذا الطريق، طريق الإنفاق والجود والكرم، صادا له عنه؛ قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) البقرة: 268. والفَحشاء في هذه الآية؛ في قول عامَّة أهل التفسير: هو البُخل والشح .
فعلى المُسلم أنْ يتدربَ ويتربَّى في مدرسة رمضان، على تطهير النَّفس من الشح والبخل، والحرص على المال؛ بالإنفاق في سبيل الله، وإطعام الطعام، وإفطار الصائمين، والإحْسان إلى الفقراء والمساكين، بإخراج الزكاة الواجبة؛ والصدقة حَسب وسعه؛ قال تعالى: (ليُنفقْ ذو سعةٍ من سَعته ومن قُدِر عليه رزقُه فلينفقْ مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) الطلاق: 7.
وقال سبحانه: (هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ۖ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد: 38.
ولنا في رسولِ الله ﷺ أسوةٌ حسنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس بالخير؛ وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضان؛ إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنةٍ في رمضان حتى ينسلخ؛ فيَعْرض عليه رسولُ الله ﷺ القرآن؛ فإذا لقيه جبريل؛ كان رسول الله ﷺ أجود بالخير؛ مِنَ الرِّيح المُرسلة” . رواه مسلم .
5- في مدرسة رمضان: يتربَّى المُسلم عُموماً على الجدِّ والاجتهاد؛ وجهاد النفس والهوى والشيطان؛ والرُّقي بها إلى معالي الأمور؛ ومنعها من سَفْسَافها؛ فيُصلي ويصُوم ويَقوم، ويُقبل على الذِّكر وقراءة القرآن، ويَهْجر مجالسَ اللغو واللهو والرَّفث، ويشتغل بالتَّوبة والاسْتغفار؛ وتجديد العهد مع الرحيم الرحمن.
6- أيضاً في مدرسة رمضان: تربية بدنية وصحيَّة مفيدة جدَّأً: فإضافة إلى التربية العلميَّة، والإيمانية الروحية التي يتلقَّاها المُسلم في مدرسة رمضان؛ فإنه يتربَّى تربيةً بدنية عظيمة؛ تكون وقايةً لبدنه مِنَ العِلل والأسْقام والأمْراض؛ وعلاجاً وتقويةً لجسمه؛ فإنَّ الصيامَ أعظمُ دواءٍ لمختلف الأدْواء، وأعْظم مقوٍّ للمَناعة، ومُنشط لأجْهزة الجسم كلِّها، كما أفاده أهلُ الذكر؛ وأهل الاختصاص في الطب والصحة.
وقد صحَّ عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنَّه قال: “صُومُوا تصحّوا” . ولا يصح مرفوعاً، ومعناه صحيح.
وقد جعل الله تعالى جوائز ربانية للمُجتهدين الناجحين في ختام هذه الدورات التربوية التكوينية في مدرسة رمضان العظيمة؛ وبعد موسمٍ إيماني حافلٍ بالجدِّ والاجتهاد؛ في العبادة والتقرب إلى الله تعالى بأنواع القربات؛ وبعد مسيرة تربوية إصلاحية مكتملة الجوانب والأركان، يكافئ الصائم بعدة جوائز عظيمة؛ وهي جوائز: الرحمة، والمغفرة، والعفو؛ والقرب من الله؛ وكفارة الذنوب؛ والفوز بالجنة، والنجاة والعتق من النار؛ كما أعلن عنها النبي ﷺ بقوله: “من صام رمضان إيمانا واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه؛ ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” .
وقوله: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه”. متفق عليهما .
وقوله: “إذا دخل شهر رمضان: فُتَحت أبواب الجنة؛ وغُلَقت أبواب النار، وصُفَدت الشياطين”. متفق عليه .
ويحق للمسلم أن يفرح بهذا الفضل العظيم: (قل بفضل الله فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون) يونس: 58 .
وقال ﷺ: “للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر؛ فرِح بفطره، وإذا لقي ربّه؛ فرح بصومه”. متفق عليه .
وللتعبير عن هذا الفرح العظيم بهذه الجوائز؛ شرع لنا الرب الكريم سبحانه يوما خاصاً يلي شهر الصيام مباشرة، جعله لهم عيداً؛ يلبسون فيه أحسن الثياب، ويخرج فيه الرجال والنساء والأطفال إلى المُصَلَّى؛ تلهج ألسنتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، ويتزاور فيه الأهلُ والأحباب والأصحاب، ويتصالح فيه الخصوم؛ وتُنسى الأحقاد، وتذوب الفروق بين الناس؛ إنه يوم عيد الفطر المبارك؛ والذي خصنا الله به نحن المسلمين مع عيد الأضحى، دون غيرنا من الأمم؛ فبشرى وطوبى للناجحين في مدرسة رمضان المبارك .
اللهم بارك لنا بشهر رمضان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وأعنا فيه على الصيام والقيام والقرآن، وسائر ما تحب من الأعمال، يا سميع الدعاء ..