في منطقة تكثر فيها زراعة القهوة بكولومبيا ، هناك 30 طالب تترواح أعمارهم مابين 5 و 13 سنة يدرسون بمدرسة ريفية مكونة من صف واحد ، هذه المدرسة هي إحدى المدارس التي يطلق عليها هنا ” المدرسة الجديدة ” Escuela Nueva ” لنتعرف على تجربة هذه المدرسة التعليمية في كولومبيا .
في معظم المدارس الاعتيادية ، يجلس الطلاب في صفوف بمواجهة المدرس الذي يستلم زمام الحديث معظم الوقت، أما هنا فالطلاب يجلسون على شكل مجموعات كل واحد يقابل شخصا من نفس المستوى ، أزيز المحادثة والحوار يملأ الغرفة ، وبعد تمامهم للوظيفة من تلقاء أنفسهم يراجع الطلاب عمل بعضهم ، والطالب الذي يواجه صعوبة في أداء المهمة يقوم الآخرون بمساعدته.
خلال زيارتي لإحدى هذه المدارس رأيت طلاب المستوى الثاني يكتبون قصصا قصيرة أما طلاب المستوى الخامس فيختبرون هل لون الضوء يتأثر لمعانه عند مشاهدته من خلال الماء ؟!
المدرس يمشي بين المجموعات ، يضع يده على أكتافهم، يراجع أعمالهم ويضع ملاحظاته عليها، وفي زاوية الصف هناك أدوات أحضرها الطلاب لاستخدامها أثناء الدروس. ووجدت أن الطلاب قاموا بإنشاء حديقة كبيرة وزرعت بالخضروات والفواكه التي سيستخدمونها في وجباتهم حسب مايصفه الآباء .
خلال العقود الأربعة الماضية، هذه المدرسة – وآلاف المدارس مثلها – تبنت ما يسمى نموذج “المدرسة الجديدة Escuela Nueva “.ففي عام 1992 خلص تقييم البنك الدولي بخصوص كولومبيا أن الطلاب الفقراء الذين يتعلمون بهذه الطريقة – التعلم عن طريق الممارسة – يحققون عموما نتائج أفضل من نظرائهم في المدارس الاعتيادية.
وفي دراسة أعدتها منظمة اليونسكو عام 2000 أوضحت أن كولومبيا ،بجانب كوبا، قامت بأفضل عمل في أمريكا اللاتينية لتعليم الأطفال في المناطق الريفية، حيث معظم المدارس تعمل عبر هذا النموذج. وكانت أيضا الدولة الوحيدة التي تفوقت فيها المدارس الريفية عموما على المدارس الحضرية.
غالبا ما يضطر الأطفال الفقراء في الدول النامية للخروج من المدرسة بعد سنة أو سنتين لأن أسرهم لا يشعرون بأهمية التعليم الذي يتحصل عليه أبناءهم.
أما في هذه المدارس فاحتمال بقاء الطلاب في المدرسة واستكمال الدراسة أكبر من نظرائهم في المدارس التقليدية.
نظام المدرسة الجديدة هو تقريبا غير معروف في الولايات المتحدة، على الرغم من أنه حصل على العديد من الجوائز الدولية .
يقول فيكي كولبير، مؤسس هذا البرنامج في عام 1975 والذي تلقى جائزة كلينتون للمواطنة العالمية : “الوضع يجب أن يتغير، فهذه هي الطريقة التي يجب أن يتعلم بها الأطفال وليس فقط الأطفال الفقراء “.
وحسب الاقتصاد المتداول في وقتنا الحاضر فإن “التعليم للجميع” هو سبيل ازدهار الدول النامية ، فالخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز يسمي هذا الأمر بـ “الصالح العام العالمي”.
وقد انخفض عدد الأطفال الذين هم في سن الدراسة الابتدائية ولكنهم لم يلتحقوا بصفوف الدراسة في جميع أنحاء العالم ليصل إلى 57.2 مليون نسمة في عام 2012 من 99.8 مليون في عام 2000 أما نوعية تعليمهم فتلك مسألة أخرى.
تقدم المدرسة الجديدة نموذجا للتكيف على نطاق واسع، على حسب وصف اليونسكو.
كما أشار تقرير اليونسكو إلى نجاح تجربة المدرسة الجديدة وانتشارها في 20000 مدرسة من المدارس الكولومبية رغم افتقار مدرسيها إلى التدريب الجيد ، وقد عبر ارنستو شيفيلبن، عميد الجامعة المستقلة في شيلي، الذي يقيم البرنامج، عن ذلك فقال : “على حد علمي لا يوجد أي مثال آخر على التحسن التعليمي الهائل في بلد نام ديمقراطي كما وجدته هنا “.
شخص آخر حائز على جائزة نوبل ، الاقتصادي أمارتيا سين – الذي يعتبر أن تضييق الحريات يعرقل النمو الاقتصادي وأن تحقيق الازدهار الاجتماعي والرفاه الاقتصادي مرتبط بتحقيق القيم الديمقراطية – يتحدث عن المدرسة الجديدة فيقول بأن المدرسة قد تحولت إلى مختبر مصغر للديمقراطية وأن مديرها بدلا من إدارة المدرسة بشكل انفرادي قد حول المدرسة الى مجتمع متمتع بالحكم الذاتي، حيث المعلمون وأولياء الأمور والطلاب لديهم الحق ورأي يؤخذ به في كيفية إدارة المدرسة.
وعندما يتم تعيين المعلمين الجدد – وقد يكونون غير معتادين على هذا النهج – في هذه المدارس، فإنه غالبا ما يكون الطلاب أنفسهم هم الذين يعلمونهم كيفية تطبيق هذه الطريقة، تضيف السيدة كولبرت : “في هذه المدارس المواطنة ليست مجرد نظرية بل انها ممارسة يومية”.
في هذه المدارس يقوم طلاب منتخبون من قبل نظرائهم بتحمل مجموعة من المسؤوليات. ففي مدرسة زرتها في حي فقير هنا في مدينة أرمينيا، قام مجلس الطلبة بوضع خطة برنامج ليوم من أجل تعزيز السلام؛ وإدارة محطة إذاعية وتحويل فصل دراسي فارغ إلى مكان هادئ للقراءة واستعادة النشاط.
أولياء أمور الطلاب في هذه المدارس يشاركون في الحياة اليومية للمدارس، ففلسفتها التعليمية تؤثر على حياتهم خارج المدرسة.
وتشير الأبحاث أن أولياء أمور طلبة المدرسة الجديدة هم أقل استخداما للعقاب البدني. بل إنهم يتركون الفرصة لأبنائهم لقضاء الوقت في اللعب أو حل الواجبات المنزلية بدلا من إجبارهم على العمل خارج أوقات المدرسة فضلا عن أنهم يشاركون أبناءهم في أنشطتهم المجتمعية.
منذ عقود مضت اعتبر جون ديوي ، فيلسوف التعليم الأمريكي ، أن الطلاب يتعلمون أكثر من خلال التجربة وأن الديمقراطية لا يمكن المضي بها قدما مالم يتم فهم حقائق مجتمع هذا الزمان في وعي الناس ، فالمدرسة الجديدة وضعت هذا المبدأ الذي تحدث عنه ديوي موضع التنفيذ . لقد شهدت وفاة الكثير من محاولات إصلاح التعليم وعلى نطاق واسع ولكنني الآن استبدلت حالة اليأس والشك ووضعتها جانبا بعد مشاهدة تجربة المدرسة الجديدة مراجعا بذلك الأبحاث ومتأملا في العدد الهائل من الطلبة الذين تعلموا بهذه الطريقة خلال أربعين سنة ماضية.
الطلاب الذين درسوا في مدارس تهتم بالفهم وليس فقط بالحفظ، وبالمفاهيم وتطبيقها على المشاكل والحالات المستجدة وبتطوير مهارات التعامل مع الآخرين ومهارات ضبط النفس، سجلوا درجات أفضل من أقرانهم في المدارس التقليدية
أنا مقتنع أن هذا النموذج بإمكانه أن يكون له أثر في حياة عشرات الملايين من الأطفال ليس فقط في الدول النامية وإنما في الولايات المتحدة كذلك، فهناك شواهد كثيرة تدل أن الطلبة الأمريكيين يقومون بأداء جيد عندما يتم تشجيعهم للتفكير بأنفسهم ومن المتوقع أنهم يتعاونون فيما بينهم.
خلص تقرير صدر العام الماضي عن المعهد الأمريكي للأبحاث إلى أن الطلاب الذين حضروا مايسمى بـ “ثانوية التعليم العميق” والتي تهتم بالفهم وليس فقط بالحفظ، وبالمفاهيم وتطبيقها على المشاكل والحالات المستجدة وبتطوير مهارات التعامل مع الآخرين ومهارات ضبط النفس ، سجلوا درجات أفضل من أقرانهم في المدارس التقليدية، وكذلك الحال بالنسبة للحصول على القبول في الجامعة.
تقول راشيل لوتان – الاستاذة الفخرية بجامعة ستانفورد : إحراز الدرجات العالية في الاختبارات هو الدافع الحقيقي للمدارس العامة والمخاوف الإدارية من إعطاء الطلاب مزيد من حرية التصرف بأنفسهم في التعليم سوف يؤدي إلى تدني هذه الدرجات ، يجب على المسؤولين وواضعي السياسات التعليمية أن يزوروا هذه المدارس الجديدة في كولومبيا ليتعلموا منها أفضل الطرق لتعليم أبنائنا .