سيظل وعي الواحد منا بنفسه منقوصًا ومحدودًا بحسب غموض التعريفات، ونسبية المعايير، وضعف قدرة الناس على مواجهة أنفسهم بصرامة وصراحة، ولكن مع هذا فلا بد من السعي المستمر إلى مراجعة الصورة التي كوَّناها لأنفسنا عن أنفسنا، وتلك التي كوّنها الآخرون لنا، ثم تلقفناها على أنها صورة صحيحة وصادقة. وتستمد هذه المراجعة مشروعيتها من كون عقولنا لا تدرك أبعاد الحقائق إلا على سبيل التدرّج.
وإذا حاولنا التبصّر بالأمور التي نحتاج إلى تدقيقها لوجدنا الكثير الكثير مما ينبغي التوقف عنده وإعادة تقييمه. وحسبي هنا أن أقدم نماذج لما أعده مهمًا في هذه السبيل، وعلى القارئ الفطن أن يقيس ما لم يُقل على ما قيل، وما هو متوارٍ على ما هو ظاهر:
1- كثيرًا ما يلتقي المرء بأناس محبطين متشائمين، ضاقت بهم الأرض، وظنوا أن ما هو قادم من الأيام لن يكون بحالٍ أفضل مما مضى. وإذا دقق الإنسان في أسباب ما هم فيه فسيجد أن مشكلة (التعميم) غير الموضوعي وغير الرشيد هي التي أوقعتهم في ذلك. قد يخفق الواحد منهم في مشروع تجاري، فيعمم الإخفاق على كل ذاته، وتتكون لديه قناعة بأنه لا يصلح للنجاح في أي شيء؛ ويبدأ في توقع الإخفاق في كل مجالات الحياة؛ مما يدفعه في اتجاه الخوف والخمول واحتقار النفس… وبعض هؤلاء المتشائمين يرى اثنين أو ثلاثة في محيطة، وقد أخفقوا في مساعيهم في مجال من المجالات، فيدفعه ذلك إلى القول: إن ذلك المجال سيِّئ، ولا خير فيه، ويبدأ في التدليل على ذلك بإخفاق فلان وفلان وهكذا..
المراجعة لهذه الحالة وغيرها تعتمد على محاولة توسيع قاعدة الفهم والتخلص من أسْر الصور الجزئية، ومحاولة رؤية الوقائع عبر مفاهيم جديدة ومغايرة للمفاهيم السابقة. وعلى سبيل المثال فإن الاعتقاد بأن لدى كل واحد منا نقاط قوة ونقاط ضعف، يبعث صاحبه على رؤية الإخفاق في مجال من المجالات بوصفه نتيجة لضعف الأهلية في ذلك المجال أو قلة الاستعداد وعدم إحكام الأسباب والمقدمات.
وعليه عوضًا عن اليأس والتشاؤم أن يكتشف نقاط القوة لديه، ويحاول الانخراط في الأعمال التي تنسجم مع تلك النقاط. والواقع والتاريخ يشهدان من خلال ألوف الأمثلة والوقائع على صحة هذا المفهوم، فكم من رجل غيّر مجال عمله، فأصاب نجحًا منقطع النظير بعد الإخفاق الذريع. وقُل مثل هذا في النظر إلى مجال من المجالات على أنه مجال صعب أو ضعيف أو قليل الجدوى أو خطر…
حيث يدلّ عدد غير متناهٍ من النماذج على أن الناجحين في أي مجال من المجالات اليوم هم أكثر بكثير من المخفقين، وفي إمكان المرء أن يطلع على قصص نجاح مثيرة في كل المجالات التي يظن المتشائمون أنها مجالات ميتة. وقد قال أحدهم: ليس هناك مشروع مخفق، وإنما هناك إدارة مخفقة. وقال آخر: ليس هناك إخفاق بمعنى الكلمة، وإنما هناك نتائج غير جيدة بسبب وجود مقدمات واستعدادات سيئة. وهذا حق.
إن على كل واحد من أولئك الذين أصدروا على أنفسهم أحكامًا قاسية ونافذة بعدم الأهلية لإنجاز الأشياء العظيمة أن يقفوا ليتلمسوا خطيئة (التعميم) التي وقعوا فيها، وحينئذ سيجدون آفاقًا جديدة تتسع، وأبوابًا موصدة تنفتح. ولن يستفيد أي من هؤلاء من هذه النصيحة إذا كان اتخذ من سوء ظنه بنفسه متكأ للهروب من تحمل المسؤولية، أو وجد فيه ملاذًا من التعب وبذل الجهد!
2- تعني المراجعة الشخصية أننا نأمل من درأ استعراض تاريخنا الخاص أن نتعلم وننضج أكثر مما يمكن أن نحصل عليه من ذلك إذا ما نظرنا في تاريخ الآخرين وسيرهم الخاصة. إن سجل حياة كل واحد منا مملوء بالمؤشرات ذات الدلالات الكبيرة والواضحة. إذا تأمل الواحد منا في مجموعة الرؤى التي كانت تشكل نظرته للحياة والأحياء، فسيجد أن كثيرًا من تلك الرؤى انتهى إلى غير رجعة بسبب الوعي الذي حصلنا عليه عبر معاناة شؤون الحياة؛ كما أنه سيجد أن بعضها قد تبلور أكثر وتعمق، بل تحوّل إلى معتقدات ومسلّمات راسخة. وسيجد قسمًا ثالثًا مازال موضع نظر وتمحيص.
وإن هذه الأقسام الثلاثة على ما بينها من تباين تعمل على خط واحد، هو جعل المرء يعتقد أنه مازال في حالة من النمو والصيرورة والانتقال من حال إلى حال. وهذا الاعتقاد هو الذي يحفزنا على أن نتحسس مآلات أوضاعنا وتسليط نور الوعي عليها؛ كي نشعر أننا نتقدم في مدارج الصلاح والازدهار، وأننا نحرز نوعًا من التفوق المستمر على أنفسنا. ومن وجه آخر فإن من الصعب على الواحد منا أن يقوم بدوره التربوي تجاه أبنائه من غير أن يتذكر الوضع السلوكي والعقلي والروحي الذي كان فيه في مرحلة الطفولة والمراهقة.
إن كثيرًا من الأسر المسلمة يشهد نوعًا من (صراع الأجيال) بسبب فقدان الوسيط الثقافي الذي ينقل عبره الآباء أفكارهم ومشاعرهم وقيمهم إلى الأبناء، وبسبب الجهل بطبيعة المراهق، وما يتعرض له من ضغوط، وما يواجهه من أزمات ومشكلات. المراجعة الشخصية تتيح الفرصة لمقارنة ما عليه أبناؤنا اليوم بما كنا عليه يوم كنا في مثل أعمارهم، ومن خلال المقارنة ندرك كُنْه المواقف التي علينا أن نقفها تجاه أوضاعهم وتصرفاتهم المختلفة.
3 – من خلال التبصر الذاتي سندرك أن كثيرًا من الأخطاء التي وقعنا فيها كان بسبب الجهل: جهل بعظمة من نعصيه، وجهل بالطريقة الصحيحة التي علينا أن نعالج بها الأمور، وجهل بأنواع قصورنا وضعفنا. ونحن نريد من خلال معرفة كل هذا أن نتعلم كيف نحمي أنفسنا في المستقبل من الوقوع في مثل ما وقعنا فيه. وهذا الغرض النبيل لا يتحقق من غير تحليل عميق لطبيعة الطموحات والتطلعات التي تحركنا، وطبيعة الحوافز والمحطات التي تنظم ردود أفعالنا تجاه الأحداث المختلفة. وسيظل مثل هذا التحليل ممكنًا إذا تحلّينا بالهدوء، ومنحنا أنفسنا الفرصة الكافية للقيام بذلك، إلى جانب امتلاك ما يكفي من الإرادة والاهتمام.
4- سيظل من مهامنا الشخصية الأساسية العمل على إدراك الفرق بين ما هو كائن في أوضاعنا الشخصية، وبين ما ينبغي أن نكون عليه. وتنبع أهمية هذه المسألة من كونها المصدر الأساس لبلورة وعينا بالطموحات والتطلعات والأحلام التي تحركنا، وتحدد اتجاهاتنا. البداية ستكون في محاولة تحديد الوضعية القائمة الآن، وذلك من خلال طرح عدد من الأسئلة، من مثل: كيف أقيّم درجة التـزامي بأمور ديني؟ هل أنا ممن يستفيدون من أوقاتهم على نحو جيد؟ هل رؤيتي للمستقبل واضحة؟ هل أوظف طاقاتي على نحو جيد؟ هل أعطي علاقاتي مع الناس حقها من الرعاية والاهتمام…؟ هل …؟
ليست عملية تقييم الحالة الراهنة لأي واحد منا بالأمر السهل كما نرغب أن تظهر في معظم الأحيان، لكن أعتقد أن المرء مهما كانت معاييره غامضة، يظل يمتلك من الأحاسيس والمشاعر والمؤشرات ما يمكّنه في النهاية من الحصول على أشياء ذات قيمة؛ والله –عز وجل- يقول: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14-15). بعد هذا ننتقل إلى تحديد ملامح الوضعية التي نتطلع أن نكون عليها في مختلف شؤونها ومن الواضح جدًا في هذا السياق أن معظم الناس لا يعرفون ماذا يريدون؛ إن لديهم أحلامًا وتطلعات، لكنها غير محددة، ولا يملكون للوصول إليها أي برامج أو توقيتات زمنية معينة، وهذا هو السبب الذي يدفعهم إلى التحدث عما لا يريدون، وعن الأشياء التي لا تعجبهم، ولا يرتاحون إليها.
الذين يعرفون ماذا يريدون تشكل طموحاتهم ما يشبه الهاجس، وهم باستمرار يسألون، ويستشيرون، ويتعلمون. قد يكون مما يساعد على تحديد الوضعية التي نتطلع إليها –السعي إلى تحديد عدد من المجالات المتعلقة بحياتنا الشخصية، مجال السلوك الشخصي، مجال الحياة الأسرية، مجال العمل، مجال الحياة الاجتماعية، مجال الصحة الجسمية، مجال الثقافة والصحة العقلية والنفسية الخ… وفي كل مجال من هذه المجالات وغيرها نحاول أن نحدد ما الذي نريد الحصول عليه. من خلال معرفة ما هو كائن ومعرفة الذي نريده أن يكون تتضح لنا المسافة الفاصلة بينهما. وهي مسافة تشبه المساحة الفاصلة بين الصحة والمرض.
5- تتضمن عملية مراجعة الحالة الشخصية العمل على محاولة فهم القناعات التي يحملها كل واحد منا ومراجعتها على نحو دقيق. حين نكون في المرحلة العمرية الأولى فإننا نكون مستعدين لتصديق كل ما نرى، وكل ما نسمع، ومع الأيام تتراكم لدينا الخبرات، ونبدأ بتشكيل قناعاتنا حول مختلف المسائل المطروحة. والذي أود التأكيد عليه، هو أنه ليس هناك أي ضمانة لصحة وصواب ما تشكّل لدينا من قناعات ومسلّمات حول أساليب العمل، وحول المجدي من غير المجدي من محاولات التجديد والإصلاح؛ وذلك لأن الأساس الذي نبني عليه قناعاتنا في هذه القضايا، يظل يتسم بالنسبة والهشاشة. وهذا يعني أن نعتقد أن المراجعة دائمًا ممكنة، وقد تكون مفيدة.
والذي يهمنا هو مراجعة القناعات التي تسبب لنا القوة والقناعات التي تسبِّب لنا الضعف. إن عقولنا وهي تحاول إنتاج المفاهيم التي تساعدها على معالجة الأشياء، كثيرًا ما تنتج الأوهام والمقولات الزائفة، وهذا من القصور المستولي على جملة البشر. ومن واجبنا التحرر من الأوهام وامتلاك المفاهيم التي نحاكم إليها القناعات.
من القناعات التي تسبِّبُ لنا القوة الآتي :
– لم أستخدم بعدُ كل إمكاناتي، ولم أستثمر كل طاقاتي الكامنة.
– ما من حالة ولا وضعية إلا وهي درجة من التحسين.
– من خلال المثابرة في العمل أستدرك على ما يكون لديّ من نقص.
– العلاقات الحسنة مع الناس باب من أبواب الرزق.
– في فضل الله –تعالى- ما يكفي الجميع، ولذلك فلا داعي للحسد.
– ما أكتسبه من معارف وخبرات أهم مما ورثته عن آبائي من إمكانات.
– ما عند الله –تعالى- يُنال بطاعته، وليس بمعصيته.
– ما يُغلق باب إلا ويُفتح باب آخر.
ومن القناعات التي تسبب الضعف:
– لست مؤهّلاً لاحتلال مناصب قيادية.
– لا فائدة من كثرة المحاولة مع معظم المشكلات التي تواجهني.
– الذين حولي يكرهونني من غير سبب واضح.
– العمل مع الناس متعب والأفضل الاستقلالية.
– أنا لا أفهم إلا في المجال الفلاني، ومن الصعب تعلّم شيء في غيره.
– لم يبق في العمر ما يستحق البدء بمشروع جديد.
6- لا يكتمل وعينا بأنفسنا، ولا نستطيع مراجعتها على النحو المطلوب إذا لم نقيّم الأساس الذي تقوم عليه سلوكاتنا على نحو عام. وذلك الأساس قد يكون راشدًا، وقد يكون سيئًا، يعبر عن الضياع والضعف. ومن هنا فإن على الواحد منا أن يحاول إدراك ما يكون من تصرفاته عبارة عن استجابة لأحكام الشرع والعقل، وما يكون منها عبارة عن استجابة لأحكام الغريزة والشهوة والمصلحة.
بهذا التساؤل اليومي والمستمر تنتعش الرقابة الذاتية لدى الواحد منا، كما تقوى حاسّة النقد الذاتي. وإذا استجبنا لهذا الوعي الجديد، وبدأنا في تكثير الاستجابات الراشدة، وتقليل الاستجابات الغريزية، فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا في سياق الارتقاء الذاتي وإصلاح الأخطاء الشخصية التي طال أمدها.
من خلال الوعي والعزيمة والمثابرة ومن خلال المحاسبة والتدقيق والمراجعة نحصل –بإذن الله تعالى- على ثمرات كنا نعدها من جملة الأحلام والأمنيات؛ بفضل الله.