على الرغم من التقدم الذي أحرزناه في العقد الماضي، إلا أن وصمة العار المرتبطة بالأمراض العقلية ما تزال حاضرة وراسخة الوجود في مجتمعنا. يمكن للطريقة التي نتحدث بها عن المرض العقلي والأشياء التي نعبر عنها علنًا من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وفي منازلنا وفي أماكن عملنا أن تحدث فرقًا جسيماً، كما يمكن لبعض أساليب الحديث عن الأمراض العقلية أن تنفر أفراد المجتمع منها، وتثير المواضيع حولها، وتساهم في وشم وصمة العار والتمييز في ثنايا المجتمع.
فلنا ببساطة أن نقول شخص يتعايش مع مرض عقلي أو تم تشخيصه بمرض عقلي، بدلاً من نعته بألقاب مثل مريض عقلي، نفساني، مختل، أو مجنون وغيرها من الألقاب المشابه؛ فهذه الألقاب من شأنها أن تعزز وصمة العار لدى من يتعايشون مع الأمراض العقلية وتستثيرهم أيضاً. واستخدام كلمات مثل شخص مع مرض عقلي أو يُعالج منه، هي خير من قولنا ضحية، أو شخص خاضع لمرض عقلي أو يعاني منه؛ فلا داعٍ هناك للإشارة للدونية في مستوى الحياة أو الاستنقاص من قدرهم. ومن الأفضل كذلك وصف سلوكهم بدل وصف ذواتهم، فلنا القول بأن تصرفات من يتعايشون مع مرض عقلي كانت غير منتظمة أو طبيعية، ولا نوصفهم هم بأنهم مجانين خارقين للطبيعة.
من الضروري أيضا إعطاء كل مصطلح وصفه الدقيق الصحيح والرسمي، لا أن نستخدم ألفاظاً سوقيّة وعاميّة، فأقراص مضادات الاكتئاب ليست “أقراص سعادة!” ومستشفى الصحة العقلية ليست “مشفى مجانين!” ولا “عصفورية!”. وبدلاً من نعت مرضى الفصام بـ”الكلاب المسعورة” فلنا أن نكتفي بالاسم العلمي لمرضهم ذاك. هذا كله من شأنه أن يضفي نوعاً من الاستهتار بحق الأمراض العقلية وإقلالاً بقدرها؛ مما يدفع من بالفعل في حاجتها إلى الإعراض عنها وتجاوزها لا طلب المساعدة منها.
عالم الأمراض العقلية هو عالم محاطٌ بالشائعات بل الخرافات من كل جهاته، ورغم أن الأمراض العقلية شائعة في المجتمعات إلا أنه غالباً ما يساء فهمها، ويتم تشويه صورتها، وجعلها وصمة عارٍ تزيد أصحابها بعداً عن الحياة الطبيعية وتزيد أيامهم صعوبة وقسوة. فلم لا نحطم بعض هذه الخرافات بمطرقة الحقيقة؟
الخرافة: المرض العقلي هو عقوبة دوامها لمدى الحياة.
الحقيقة: سيتعافى معظم الناس تمامًا، خاصة إذا تلقوا المساعدة مبكرًا. وقد يختلف التعافي من شخص لآخر ففي حين أن البعض قد يتعافى يمر بنوبة واحدة فقط ثم يتعافى تماماً وربما بوقت وجيز، والبعض يمر بنوبات محدودة على مدى سنواتٍ عدة. وهناك قليل ممن يمرون بنوبات حادة منتظمة قد يحتاجون إلى علاج مستمر للتحكم بمرضهم خاصة في ظل عدم تلقيهم للدواء آنذاك.
الخرافة: الأمراض العقلية كلها متشابهة.
الحقيقة: أن هناك أنواع عديدة من الأمراض العقلية، ومجرد معرفة أن شخصًا ما مشخصٌ بمرض عقلي ما لن يخبرك بمستوى صحته أو إصابته، أو ماهية الأعراض لديه أو تأثيرات المرض على حياته؛ فعلى الرغم من أن مرضًا عقليًا معينًا يُظهر أعراضاً محددة، إلا أنها لا تنطبق على الكل؛ فمرضى الفصام مثلاً قد يسمع الكثير منهم أصواتًا، والبعض لا. ومن المهم أيضاً أن نعلم بأن الأمراض العقلية ليست كلها “نفسية” بحتة؛ فيمكن أن يكون للعديد منها “سمات جسدية” كالأرق، وفقدان الوزن أو اكتسابه، وزيادة الطاقة أو نقصانها، وألم الصدر والغثيان.
الخرافة: كل مصاب بمرض عقلي هو شخص عنيف بالضرورة.
الحقيقة: تشير الأبحاث إلى أن الخاضعين للعلاج من المرضى العقليين ليسوا بأكثر عنفًا أو خطورة من عامة الناس، بل العكس! هم أكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا للعنف، وخاصة إيذاء أنفسهم بإرادتهم. وإن كان هنالك ارتباطٌ إحصائيٌ ضعيفٌ بين المرض النفسي والعنف فهذا يتركز حول مجموعات فرعية معينة كمثل الأشخاص الذين لا يتلقون العلاج، والذين لديهم تاريخ مسبق من العنف، والذين يتعاطون المخدرات أو الكحول.
الخرافة: بعض المجموعات الثقافية أكثر عرضة من غيرها للإصابة بمرض نفسي
الحقيقة: كلنا عرضة لأن نصاب بمرض عقلي ولا أحد منا محصن ضد مشاكل الصحة العقلية. إلا أن الخلفية الثقافية للشخص قد تؤثر على كيفية تعرضه للمرض العقلي وفهمه له وتفسيره لأعراضه. الأبحاث حول ذلك محدودة، لكن البيانات المتاحة تشير إلى أن الأشخاص المولودين في أستراليا لديهم معدلات أعلى قليلاً من الأمراض العقلية مقارنة بمن ولدوا خارجها. من ناحية أخرى، فإن العديد من الأشخاص الذين ينتمون إلى خلفيات متنوعة ثقافيًا ولغويًا مروا بالكثير من التعذيب والصدمات والخسائر الفادحة خلال رحلة لجوئهم مما قد يجعلهم في هشاشة تجاه الإصابة بالأمراض العقلية أكثر من غيرهم.
نخلص إلى أن اللغة مثل نصل السيف، حادة ودقيقة، وأن أي استهتار في استخدامها قد ينتهي بنهايات لا تحمد عقباها؛ فكلمة وحيدة مثل مختل قد تجعل من يلملم شتات قوته لمقاومة مرضه يستسلم، ويركن إلى رفع الراية البيضاء والغرق في سواد أعماقه. وتسمية مستشفى الصحة العقلية بـ”مشفى المجانين” كفيل بهروب كل من يحتاجها بعيداً، بعيداً جداً، عن عتباتها. فلا أحد له القدرة على مواجهة مجتمع ينعته بالمجنون ويتنمر عليه بسبب مرضه، وسيكتفي بالتعتيم عن كل ما يخص مرضه. ليس علينا البتة أن نحمل كل تلك المفاهيم المغلوطة عن عوالم الأمراض العقلية، وعلينا أن ننفض عن أعتاقنا غبار الخرافات وحمل ثقل الحقيقة والتعامل بما هو طبيعي معهم ليصلوا بسلام لجوهرهم الحقيقي ويتغلبوا على أزمتهم تلك.