صدر عن رئاسة الشؤون الدينية بالجمهورية التركية الطبعة الأولى من كتاب ” المسلمون في البرازيل ” تحقيق ودراسة لمخطوطة الشيخ عبد الرحمن البغدادي ” مسلية الغريب بكل أمر عجيب “، أعدها الشيخ خالد رزق تقي الدين رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية في البرازيل، وقد تم طباعة الكتاب طباعة فاخرة بأربع لغات ” العربية والبرتغالية والإسبانية والتركية ” وقام المؤلف بتقديم نسخة منها لرئيس الجمهورية التركية رجب طيب أوردغان وللدكتور محمد كورماز رئيس الشؤون الدينية، خلال قمة الزعماء الدينيين المسلمين لدول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي بمدينة إسطنبول .
وتعد مخطوطة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي ” مسلية الغريب بكل أمر عجيب “، تأصيلا تاريخيا ووصفا متميزا لعالم جليل وداعية من الطراز الأول، والشيخ عبد الرحمن البغدادي عالم أديب ذو مواهب متعددة، كتب الشعر والأدب، وأتقن العلوم المختلفة إضافة للعلوم الشرعية، وتمكن من اللغتين العربية والتركية، وكان محبا للسفر والتجوال، ولقد سافر إلى الدولة العلية العثمانية في الأستانة في عهد السلطان عبد العزيز الأول، حيث مارس الدعوة وترقى في المناصب ليصير إماما للبحرية العثمانية، وحينما علم أن هناك سفينتان ستسافران إلى البصرة مرورا برأس الرجاء الصالح طلب الإذن لمرافقة إحداهما وكان ذلك في عهد أمير البحار محمد صالح آتيش باشا، وكان قصد الشيخ كما ذكر في مخطوطته ” فطلبت المسير بإحداهما قصدا للسياحة والتأمل بكل ساحة، إذ هي تزيد اليقين ويتأكد بالنظر لعظمة القدير المبين” ، وقد بدأت الرحلة في أوائل جمادى الأولى سنة 1282 هجرية، وحينما وصلت السفينتان للمحيط الأطلسى هبت عاصفة قوية وحملتهما إلى بلاد بعيدة تبين بعد ذلك أنها مدينة ” ريو دي جانيرو ” عاصمة دولة البرازيل في ذلك الحين، وهناك التقى بمجموعة من المسلمين البرازيليين من أصول إفريقية، والذين ألحوا عليه في الإقامة بينهم لتعليمهم أمور الدين الإسلامي، وقد قبل الشيخ البقاء معهم وذلك بعد مرور ثلاثة أيام كان قد قضاها في التشاور مع قائد السفينة حول وضع المسلمين في البرازيل والجهل الذي أصابهم، وتبديل شعائر دينهم يقول الشيخ البغدادي ” وهناك تركت البوابير لأجل تعليم المسلمين الذين بهذه البلاد مقيمين محتسبا لوجه رب العالمين ” .
ولقد عمد بعض الكتاب إلى التشكيك في وجود المخطوطة، وكذلك شككوا في شخصية الشيخ عبد الرحمن البغدادي، إلى أن قمت بزيارة لأرشيف الدولة العثمانية بحثا عن وثائق حول هذه الرحلة، ثم توجهت لمكتبة السليمانية حيث وجدت ترجمة المخطوطة للغة العثمانية القديمة، وقد قام بهذا العمل ” شريف أفندي ” وقد حصلت على نسخة مصورة من الترجمة من مكتبة السليمانية في اسطنبول، وهي مسجلة تحت رقم 4979، وقد تمت هذه الترجمة عام 1288 هـ يعني 6 أعوام من تاريخ زيارة الشيخ عبد الرحمن البغدادي للبرازيل، وهذه الترجمة تضفي مصداقية على وجود المخطوطة والعناية والاهتمام الذي تم بها من قبل بعض العلماء في ذلك العصر .
وتعد المخطوطة عمدة للدارسين والمتابعين لتاريخ المسلمين في البرازيل وأمريكا اللاتينية، لأن من كتبها عالم جليل وأديب مخضرم، استطاع أن يصف كل مارأى، وأن يضع خططا عملية لإنقاذ الجالية المسلمة في ذلك الحين، لقد أضافت هذه المخطوطة بعدا آخر على تاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدارسين لتاريخ الإسلام والمسلمين في البرازيل، أن قصة المسلمين الأفارقة الأوائل الذين جلبهم البرتغاليون إلى البرازيل للعمل على استصلاح أراضيها، تنتهي بانتهاء ثورتهم عام 1835م في ولاية باهيا والتي كانت نتيجتها الفشل في تحقيق أهدافها لتحرير العبيد وإقامة مملكة إسلامية .
وحين عثرنا على هذه المخطوطة استكملنا حلقة مفقودة في تاريخ المسلمين في البرازيل، وجاءت لتؤكد أن الإسلام استمر متواجدا وبفاعلية داخل دولة البرازيل وإن كان أتباعه يمارسونه سرا لسنين طويلة بعد فشل هذه الثورة، ولقد حاول المسلمون خلال تلك الفترة أن يوحدوا صفوفهم وكان لهم تواصل منظم بين تجمعاتهم المنتشرة في دولة البرازيل الكبيرة، ومارسوا شعائر دينهم التي شابها الكثير من التحريف نتيجة قتل مشايخهم واندساس بعض اليهود بينهم ممن ادعوا الإسلام، وعملوا على تبديل وتحريف التعاليم والشعائر الإسلامية .
زيارة الشيخ عبد الرحمن البغدادي للبرازيل عام 1866م تعتبر أول زيارة لعالم مسلم للمسلمين في الأمريكتين، وقد ووصف الشيخ ودون في مخطوطته أخلاقيات وحياة وممارسات وتفاعلات الجالية المسلمة المختلفة، وحاول من خلال برنامج تربوي إسلامي التغلب على معظم المصاعب والأمراض الأخلاقية التي أصابت عدد كبير من مسلمي البرازيل، والنهوض بالجالية على كافة المستويات .
وتكمن أهمية المخطوطة كذلك في وصف الشيخ البغدادي رحمه الله للأماكن التي زارها وهو مايسمى جغرافية المكان، وعادات وطبائع الشعب البرازيلي وكنائسه ومايدور فيها، وأنواع الأطعمة والفواكه، ووصف البلدان التي مرت عليها السفينة أثناء عودتها .
وهناك الكثير من الدروس الدعوية للعلماء والدعاة الذين يعملون في بلاد غير مسلمة، وكثير من العبر التاريخية التي تفيدنا في رسم الخطط والتغلب على المصاعب، وسوف أضمن الطبعة الثانية من الكتاب الكثير من الأبواب التي تخدم الدعاة المهتمون بالتعريف بالإسلام خارج البلدان الإسلامية، والله المستعان وعليه التكلان .