من الأحاديث الجامعة التي تبين جانبا من حقوق المسلمين بعضهم على البعض، وتؤسس مبدأ التآخي والذي يعد خصلة من خصال الإيمان، إن لم يكن دلالة على كمال الإيمان، جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: أن النبي ﷺ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
وتكرر هذا اللفظ في رواية فضالة بن عبيد رضي الله عنه: “المُسلمُ من سَلِمَ المُسلمونَ من لِسانِه ويَدِه، والمُؤمن من أَمِنَه الناسُ على دِمائهم وأَموالهم، والمُجاهد من جاهد نفسَه في طاعة الله، والمُهاجر من هجَر الخَطايا والذنوب”.
واشتمل هذا الحديث الشريف على معان تربوية وإيمانية كبيرة إلى جانب تأصيله للمسائل الفقهية يجب التنبه لها وهذا يظهر لنا خلال بيان معاني الحديث.
قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) يريد أن المسلم الممدوح هو من كان هذا صفته، وليس ذلك على معنى أن من لم يسلم الناس من لسانه ويده ممن قد دخل في عقد الإسلام فليس بمسلم، وكان بفعله المنبئ عنه خارجا من الملة..
كذلك أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله فيما أوجبه عليه من فرائضه أداء حقوق المسلمين، والكف عن أعراضهم
وكذلك المهاجر الممدوح هو الذي جمع إلى هجران وطنه هجر ما حرمه الله عليه. ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم. ألا تراهم يقولون للصانع إذا لم يكن متقنا (لعمله) محكما له: ما صنعت شيئا ولم تعمل عملا، وإنما يريدون بذلك نفي الإتقان له، لا نفي الصنعة عينها، فهو عندهم عامل بالاسم غير عامل في الإتقان.
قال المهلب: يريد المسلم المستكمل لأمور الإسلام خلاف قول المرجئة.
والمراد بهذا الحديث الحض على ترك أذى المسلمين باللسان واليد والأذى كله، ولهذا قال الحسن البصرى: الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر والنمل.
– وفي رواية البخاري، (وقوله: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).
قال أبو الزناد: لما انقطعت الهجرة، وفضلها حزن على فواتها من لم يدركها من أصحاب الرسول، (ﷺ) ، فأعملهم أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط.
ومراد النبي بهذا الحديث: أن مَنْ ترك إيذاء الناس من جميع الوجوه مع أداء الفرائض بصحيح الاعتقاد، فهو مسلم كامل، ومن لم يترك إيذاء الناس، فهو مسلم ناقص.
قوله: “والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى” يعني: المجاهد ليس مَن قاتل الكفار فقط، بل المجاهدُ مَن حارب نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشدُّ عداوةً معه من الكفار؛ لأن الكفار أعداؤه ونفسَه عدوُّه، ولكن الكفار أبعد منه ولا يتفق تلاحُقُهم وتَقَابلهم به إلا حينًا بعد حين، وأما نفسُه أبدًا تلازمه وتقاتله وتمنعُه عن الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلازم الرجل أهمُّ من القتال مع العدوِّ الذي هو بعيدٌ منه.
فقه هذا الحديث
ومن فقه حديث المسلم من سلم المسلوم من لسانه ويده ما يأتي:
- الإيمان مراتب، بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيها كالكامل، قال الله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} [الأنفال: 2]، أي: إنما المؤمن حق الإيمان من كانت هذه صفته، ولذلك قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} [الأنفال: 4]، ومثل هذه الآية في القرآن كثير وكذلك قوله – ﷺ -: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”، أي: هو المؤمن المسلم حقا.
- الحث على الجود والاعتناء بنفع المسلمين والكف عما يؤذيهم بقول أو فعل مباشرة أو سبب والإمساك عن احتقارهم.
- وفي الحديث الحث على تألف قلوب المسلمين واجتماع كلمتهم وتوادهم واستجلاب ما يحصل ذلك، قال القاضي رحمه الله: والالفة احدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.
- واختص اللسان واليد؛ لأن أكثرَ الإيذاء والضرر يحصلُ بهذين العضوين، وإلا يمكنُ إيذاءُ الناس بالعين والرجل بأن ينظر إلى بيت أجنبي، أو يمشي إلى موضع يتأذَّى أهل ذلك الوضع من دخوله عليهم. المسلمُ الكاملُ في إسلامه من لا يؤذي أحدًا بلسانه بالشتم والغيبة والبهتان، ولا يأخذُ مالَ أحد، ولا يضربُ أحدًا بغير حق، ولا يمدُّ يده إلى امرأة ليست منكوحة ولا مملوكة له.
- أقسام الهجرة: الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك.
فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلي بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان يدفع به الشبهات. الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلي بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، هناك شهوات، من خمر، وزني، ولوط. كل إجرام موجود في بلاد الكفر.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلي ذلك؛ مثل أن يكون مريضاً؛ يحتاج إلي السفر إلي بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلي علم لا يوجد في بلد الإسلام تخصص فيه؛ فيذهب إلي هناك ويتعلم، أو يكون الإنسان محتاجاً إلي تجارة، يذهب ويتجر ويرجع.
القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه)) فتهجر كل ما حرم الله
القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.
ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه.