في الأدبيات الاقتصادية الوضعية حديث ممتد عن الندرة النسبية باعتبارها التجلي الأكبر للمشكلة الاقتصادية.
والمراد بالندرة النسبية في هذه الأدبيات: أن الموارد الطبيعية منها ما هو نادر وقليل وشحيح بحيث لا يكفي إشباع كل احتياجات الإنسان، فضلا عن رغباته التي تتعدى درجة الاحتياجات.
فعناصر الإنتاج وفق هذا المنظور لا يمكنها أن تكفي كل ما يحتاج إليه الإنسان، فلا بد إذن من أن تتوجه العناصر إلى إنتاج بعض ما يحتاج إليه الإنسان، وإهمال البعض الآخر من احتياجاته، وتختلف معايير التقديم والتأخير في المنتجات حسب النظرة الاقتصادية، فللرأسمالية معيارها في التفضيل، وللاشتراكية معيارها المختلف.
الاقتصاد الإسلامي
سادت في كتابات أكثر علماء الاقتصاد الإسلامي، نظرة مختلفة عن الندرة النسبية، فالكثير منهم جنح إلى أن الكون لا يعرف الندرة النسبية .
ففي كتابه الإسلام والمشكلة الاقتصادية، يذهب الدكتور إبراهيم البطاينة إلى أن الإسلام لا يعترف بوجود الندرة النسبية، فيقول: “إن الإسلام لا يعترف بوجود الندرة بالمعنى الاقتصادي إلا أنه يعتبر أن المشكلة الاقتصادية هي نتاج أفعال الإنسان بظلمه وكفره للنعمة وسوء الاستخدام للموارد التي وهبها الله للإنسان للاستفادة بخيراتها” .
والدكتور محمود الخالدي يرى أن الموارد الموجودة في الكون قادرة على إشباع حاجات الأفراد الأساسية إشباعاً كاملاً وكلياً. ويقرر أن الأصل هو الوفرة المطلقة. فيقول:(إن الأصل في الخلق هو الوفرة . . الوفرة المطلقة وما الندرة النسبية إلا عرض يظهر ويختفي ويساعد الإنسان بغبائه وبجحوده على تعميمه وانتشاره وتكرار ظهوره) . [1]
ندرة ولكن
وعلى صعيد آخر، يعترف بعض علماء الاقتصاد الإسلامي بوجود الندرة، لكنه لا يعتبرها مشكلة كونية، من هؤلاء الدكتور عبد المنعم عفر حيث يقول:”لا يعترض الإسلام على محدودية الموارد الاقتصادية، بالتعريف السالف الذكر “.
وإلى مثل رأيه يذهب الدكتور سامي السويلم ، حيث يقول : ” الندرة ليست مشكلة. بل هي حقيقة تدعونا لضبط إنفاقنا واستهلاكنا للموارد. فإذا فعلنا ذلك حلت البركة واتسعت الأرزاق.. الموارد محدودة. هذه حقيقة مشاهدة لا يمكن إنكارها.”
فوفق هذا الاتجاه، توجد ندرة للموارد، لكن توجد أيضا أسباب بشرية أدت إلى هذه الندرة. ويمكن تعداد العوامل التي أدت إلى وجود الندرة كما أثبتها الدكتور معتز مسالمة كالآتي :
1- عجز الإنسان عن الإفادة بما في الأرض.
2- الغرور والمبالغة في تقدير الذات والميل إلى التباطؤ في العمل.
3- إتلاف الكثير من الإنتاج. وذلك بتوجيه الإنتاج إلى ما لا ينفع كإنشاء أجهزة الدمار والأسلحة.
4- سوء التوزيع. فنجد الفقر في كثيرٍ من المناطق،وكذلك الغنى الفاحش.
وبعد أن يرفض الندرة يقرر أن الأصل في هذه الدنيا هو الوفرة. . وما الندرة إلا عرض يظهر ويختفي.[2]
على الصعيد الآخر، يقر بعض علماء الاقتصاد الإسلامي بوجود الندرة النسبية وباعتبارها سببا رئيسًا في المشكلة الاقتصادية، من هؤلاء ، الدكتور محمد علي القري.
يقول الدكتور محمد علي القري:
“يميل بعض الكتاب في الاقتصاد الإسلامي إلى القول بعدم وجود المشكلة الاقتصادية؛ إذ يعتقد بعضهم أن القول بوجودها يتنافى مع الاعتقاد الصحيح للمسلم؛ لأن في فيها شبهة أن الله عندما خلق الكون قصَّر في خلقه فلم يخلقه على الوجه المطلوب، غير أن الموقف الذي نرتضيه هو خلاف ذلك؛ فالمشكلة الاقتصادية وصف ملائم يقبله العقل لواقع الحياة الاقتصادية، ولا نرى أن العقل في هذه المسألة ينافي النقل”[3]
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر: 21]، وقوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقوله تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11]
وجه الدلالة : أن هذه الآيات دلت على أن الموارد في الأصل غير متاحة لبني البشر بالطبيعة، ولكن الله ينزل ما يشاء كيف يشاء ومتى شاء، ينزلها بقدر معلوم، وهذا وصف قريب لواقع الموارد في فرضية الندرة. [4]
الآثار المترتبة
موضوع الندرة النسبية نقطة من النقاط المحورية الفارقة بين نظام اقتصادي وآخر، فالموضوع ليس ترفًا فكريًّا، كما أنه ليس موضوعا نظريا.
وأهم الآثار المترتبة على اعتبار الندرة النسبية حقيقة كونية، مشكلة الاختيار.
يقول الدكتور عبد الرحمن يسري : ينجم عن محدودية الموارد ظهور مشكلة الاختيار، فعلى الإنسان أن يفاضل ويختار بين رغباته، أي رغبة سيشبعها وأي رغبة سيضحي بها حالياً، وأي استخدام للموارد يمكن أن يتم، وأي استخدام لها يمكن إرجاؤه، أي أننا لا مناص أمام قضية التضحية بحاجات ورغبات واستخدامات، فماذا نفضل وماذا ننحي؟ وعلى ماذا نحصل وبم نضحي؟ كل هذه الأسئلة تترجم اقتصادياً في سؤال هو: «ماذا ننتج؟»
وإذا تجاوزنا هذا السؤال يواجهنا سؤال آخر هو «كيف ننتج؟»، بمعنى: أي الأساليب الإنتاجية المتعددة يستخدم في الإنتاج.
وإذا ما انتهينا من ذلك يواجهنا سؤال أخير من وجهة نظرهم وهو «لمن ننتج؟» بمعنى: من الذي سيستفيد من الإنتاج ومن الذي سيحرم؟[5]
وعلى هذا، فهذه الأسئلة الثلاثة تشكل جوهر ومضمون علم الاقتصاد، ومن ثم تبدو علاقة ما يسمى بالمشكلة الاقتصادية بعلم الاقتصاد، وكيف أن المشكلة على هذا النحو تشكل موضوع علم الاقتصاد، بل والتبرير المنطقي لوجوده، وكانت مفرقاً من المفارق الأساسية للنظم الاقتصادية، سواء من حيث تشخيصها أو من حيث آليات مواجهتها.
ويقرر الدكتور يسري أن الأثر العملي المترتب على هذا الخلاف النظري يكمن في أن يحدد كل قطر موارده بدقة، ثم يبدأ بتنحية الرغبات الكمالية؛ باعتبارها لونا من ألوان التبذير الذي يعد خصما من الموارد، ويزاحم الضرورات والاحتياجات.
[1] – انظر كتابه : النظام الرأسمالي في ميزان الإسلام
[2] – انظر كتابه : المشكلة الاقتصادية بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي.
[3] – انظر كتابه : مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي.
[4] – المرجع السابق.
[5] – انظر :المشكلة الاقتصادية وحقيقة الندرة النسبية للدكتور عبد الرحمن يسري، دراسة منشورة بمجلة الاقتصاد الإسلامي. عدد مايو 2015م.