إن حجم المعارف التي يتلقاها الإنسان المعاصر ربما تفوق بأضعاف كثيرة تلك التي كان يتلقاها الإنسان في ما قبل الثورة الصناعيّة، حيث غدت المعرفة تواجهه وتسقط عليه حتى في غرفة نومه، ولا يحتاج للوصول إليها سوى تقليب الأجهزة الصغيرة التي بين يديه والتي باستطاعتها أن تنقله من عالَم إلى آخر، بينما كان البخاري يركب ناقته لتسير به شهرا حتى يسمع الحديث أو الحديثين، وإذا كان علماؤنا يجهدون في الحفظ، فإنّ محركّات البحث السريع قادرة اليوم على توفير المعلومة وأخواتها وقريباتها بأقل مما يحتاجه الحافظ لاستذكار حفظه، ومع كل هذه الطفرة الهائلة فإنّ مخرجاتنا اليوم لا تقاس بتلك المخرجات، على الأقل في دائرة المعرفة الإسلامية وعلوم التاريخ والمجتمع، فلم يظهر عندنا محدّث كالبخاري ومسلم، ولا فقيه كأبي حنيفة ومالك، ولا مؤرّخ كالطبري وابن كثير، ولا عالم اجتماع كابن خلدون والمقريزي، ولا فيلسوف كالغزالي وابن رشد.
إن وجها من وجوه المعضلة الثقافية التي نغوص بها اليوم هو العجز عن مواجهة المشكلة وتشخيصها ووضعها في إطارها المناسب، رغم حجم المعلومات والمواعظ التي نخضع لها يوميّا، فالمسلمون اليوم لا يجتمعون إلا على الشعائر كصلاة الجمعة وصوم رمضان والعمرة والحج، أما لو جرّبت وطرحت عليهم سؤالا واحدا عن أية مشكلة أو ظاهرة فإنّك تجد أبناء المسجد الواحد يختلفون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار! حتى في القضايا التي ما كنت تظن أن واحدا من البشر يخالفك فيها!
إن هذه المعضلة لا ينبغي تجميلها بمقولات (الاجتهاد) و (التعدديّة) و(الخلاف الذي لا يفسد للودّ قضيّة)، بل هي مؤشّر صارخ على تشوّه (الرأي العام) وغياب (المنظومة القيميّة) وهبوط المستوى الثقافي وربما الأخلاقي أيضا.
إنّ المعارف التي نملكها اليوم لا شك أنّها أكثر بكثير من تلك التي كان يملكها أجدادنا، لكنّها معارف لا تصلح لبناء الشخصيّة المتوازنة ولا المجتمع المتوازن.
إن مواد البناء المتراكمة لا تصنع بيتا مهما كان حجمها وحجم تكلفتها ما لم تكن هناك خارطة واضحة، وهكذا المعرفة الإنسانيّة، وفي العلوم التجريبية يبدو هذا واضحا، فمن يقضي عمره في تصفّح المواقع الطبّية لن يكون طبيبا، بينما نجد الفوضى ضاربة في التعاطي مع العلوم الدينيّة والمجتمعيّة، مع أنها تمسّ حياة الناس في كل مفصل من مفاصلها، من بناء الفرد والأسرة إلى بناء الدولة والأمة والعلاقات المتشعبة والمعقدة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، مما يعني أن الخطأ فيها قد يكون الأشدّ خطرا قياسا بالخطأ في تلك العلوم التجريبية.
إن منهجية البناء المعرفي تعني الانطلاق من خطة تربوية واضحة المعالم لتكوين الهيكل الأساس لقدرات الإنسان الفكرية ،بحيث يكون قادرا على تنظيم أفكاره، وفهم أفكار الآخرين والحكم عليها بطريقة تحليلية وتركيبية تمكنه من الإسهام في الإنتاج المعرفي شرحا واجتهادا وإبداعا، والاستفادة الواعية من خبرات الآخرين، وهنا تتخذ المعارف شكل البناء التربوي المؤسس على خطة شبيهة بخارطة المباني من حيث تحديد البدايات والنهايات وترتيب الأولويات ،وهذا بخلاف التجميع العشوائي للمعلومات والذي قد ينتج معرفة واسعة ولكن بقدرات تحليلية واجتهادية متواضعة.
إننا هنا لا نتحدّث عن (هندسة المعرفة) بمعناها السلبي والذي يحمل طابع الوصاية والتوجيه المرتبط بسياسات الدولة وعبقرية (القائد التاريخي) و (الحزب الحاكم)، فهذه إحدى أهم أسباب الفوضى والتخلف المعرفي الذي نعاني منه.
في تاريخنا المشرق لم تكن المعرفة مظهرا من مظاهر الدولة، ولا وظيفة من وظائفها، بل كانت منبثقة من وعي المجتمع ومنظومته القيمية الراقية، فمكانة البخاري ومسلم وأبي حنيفة ومالك والغزالي وابن تيمية لم تحدد بمرسوم جمهوري ولا إرادة ملكية، بل هي إرادة الأمّة، ولذلك شاع في تراثنا مصطلح (تلقته الأمة بالقبول)، فالأمة هي التي تقبل أو ترفض، تقبل المناهج والأشخاص والفتاوى والحلول والتصورات، وتميّز بين هذا العالم وغيره وهذه المدرسة وغيرها وهكذا.
لكنّ السؤال الأهم هو ما المعيار الذي كانت تملكه الأمة بحيث تكون قادرة على القيام بوظيفتها هذه وممارسة دورها الكبير والخطير في تقويم المنتجات المعرفية المتنوّعة والمعقّدة؟ وكيف توافقت الأمّة على هذا المعيار؟
إنّ الأمة حينما تكون لها شخصيتها الواضحة والمميّزة ستكون قادرة على تحديد أهدافها وغاياتها الكبرى، وهي هنا لا تختلف عن الشخص الفرد الذي يفكّر بخياراته وإمكانيّاته ويرسم في ضوئها أهدافه وأولويّاته، أما حينما تضطرب هويّة الأمة فستضطرب شخصيتها ولن تكون قادرة على التفكير بطريقة موحّدة حتى في التعبير عن ذاتها وخصوصيتها وأهدافها الكبرى فضلا عن تفاصيل الحياة وإشكالاتها الفرعية، وحينما تضطرب الأمة في كل ذلك وتعجز عن الإجابة على أسئلة الحياة الكبرى فإن زخم المعارف والمعلومات المتدفّقة عليها من كل صوب سيكون عبئا ثقيلا عليها وسببا مضافا من أسباب تفرّقها وتشتّتها.
إن الشباب الذين يحملون السلاح اليوم يحملون معه كثيرا من (النصوص الدينيّة) التي يسوّغون بها تكفير المسلمين وحزّ رؤوسهم والتلهّي بها، وتفجير السيارات الملغّمة في الأسواق والأماكن العامّة، وهدم المساجد ومصادرة مساكن الناس وأمتعتهم وأموالهم! والذين يردّون عليهم يردّون عليهم بالنصوص الدينيّة أيضا، حتى كأنّك أمام دينَين اثنين وليس دينا واحدا، وإذا كان هذا التباين مع وجود النص، فإنّ التباين في مساحة الاجتهاد وأقوال العلماء سيكون أشدّ وأبعد.
إنّ هذه النتيجة تبدو طبيعيّة ومتّسقة تماما مع مناهجنا الفوضويّة والعشوائية في التربية والتعليم.
إنّ الإسلام حينما أراد أن يعبّر عن نفسه قال: (بُنِي الإسلام على خمس) فالإسلام بناء وخارطة ومنهج، وكل نصّ فيه يجب أن يوضع في مكانه، وكل حكم من أحكامه يجب أن يفهم في دائرته، وإلا فإن هذه النصوص إذا أخرجت من سياقها وأبعدت عن خارطتها فإنها ستنقلب إلى أعباء ومعوّقات، تماما كأدوات البناء المبعثرة والمفككة.
لقد كان الناس يفترقون على الماء والكلأ وعصبيّات الدم والثأر فيجمعهم الإسلام، فكيف إذا تحوّل (الإسلام) وفق هذه الطريقة العشوائية في قراءته وممارسته إلى أداة من أدوات التفرقة والتفكيك والتخريب؟!