رأينا في بعض مقالاتنا السابقة، كيف قام بعض المستشرقين بحرب نفسية، تهدف إلى شل العقل المسلم، وتهوينه، وتعطيله عن التفكير، وإلباسه عقدة الدونية والنقص أمام الفكر الغربي، فتم تعميم الحكم الذي قد يصدق على مرحلة تاريخية اتسمت بهيمنة الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي، ولكنها لا تصدق؛ لا على التاريخ الإسلامي كله، ولا على الإسلام ذاته، وبالأخص لا تصدق على القرآن، لأن القرآن هو الذي أحدث تحولاً روحياً وعلمياً وعقلياً وحضارياً كبيرا في حياة المسلمين.

وفي هذا السياق نذكر ما قام به مالك بن نبي في كتابه “إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث”، فقد قام بتحليل دور الاستشراق في ترسيخ عقدة النقص نحو المنجز العلمي الغربي والفكر العقلاني الغربي، سواء بنسبة النقص لتراثنا الحضاري الإسلامي، أو بمدحه وتصويره بطريقة تجعل المسلم يتيه فرحاً وطرباً به، لكن دون صلة عملية به، يستعيد من خلالها فعاليته الحضارية، والمناخ العقلي الذي أنتج ذلك التراث، الذي ينتقصه بعض المستشرقين ويمدحه بعضهم الآخر[1].

ولكن بن نبي قدم فكرة منهجية مهمة في سبيل تفنيد دعاوى المستشرقين، وذلك بأن علينا ألا نكتفي بردود الأفعال؛ كأن نقع في محاولة إثبات أن القرآن يدعو إلى العلم، أو أن فيه المعجزات العلمية، أو محاولة تطويع القرآن وتحويله تارة إلى كتاب فيزياء، وتارة إلى كتاب فلك، وتارة أخرى إلى كتاب جبر، وهكذا. بل علينا أن نطرح قضية “الإسلام والعلم في صورة جديدة تتماشى أكثر مع سمو الدين ومنطق العلم، بحيث لا نبحث في الآيات الكريمة هل ذُكِرَ فيها شيء عن غزو الفضاء أو تحليل الذرة، وإنما نتساءل هل في روحها ما يعطل حركة العلم، أو على العكس ما يشجعها وينميها”[2].

ولهذا، يؤكد بن نبي على وجوب طرح القضية بطريقة إيجابية، تستعيد للقرآن فعاليته، فنتساءل “إذا ما كان يستطيع القرآن أن يخلق في مجتمع ما المناخ المناسب للروح العلمي، وأن يطلق فيه الأجهزة النفسية الضرورية لتقبل العلم من ناحية، ولتبليغه من أخرى”[3].

إن هذا السؤال بصيغته التي قدمها بن نبي يجعلنا نحتفظ للقرآن بكونه كتاب هداية، وليس كتاباً في العلوم أو التاريخ أو السياسة بالمعنى المدرسي. فننظر كيف شكل القرآن البيئة التي تأسست فيها الروح العلمية، والمناخ العقلي الذي أدى إلى قيام علوم ومعارف، وظهور علماء أنجزوا أعمالاً عبقرية، في شتى مجالات العلوم طيلة قرون، بتشكيله للبنى النفسية والاجتماعية، التي تعمل على تشجيع العلم والابداع العلمي، ونشر العلم في العالم.

إن التطور التكنولوجي المعروف اليوم لا يمكن نكران بنائه على بعض منجزات المسلمين العلمية، مثل النظام العشري في علم الجبر، والحساب والهندسة، وكثير من علوم المسلمين التي اخترعوها، بفعل المناخ العقلي الذي أسسه القرآن. ولهذا نتساءل مع بن نبي؛ هل يمكن للآلات والأجهزة الالكترونية والميكانيكية التي نعرفها اليوم -كما يقول بن نبي- أن تقوم بعملياتها لو لم يهيئ من قبل ذلك النظام العشري الذي نستطيع به كتابة رقم أفوجدرو، على سبيل المثال، بخمسة رموز فقط، أو سبعة إذا تحرينا دقة أكثر؟ ألسنا ندين بوضع هذا النظام العبقري لذلك المناخ العقلي الذي كونته القيمة القرآنية في المجتمع الإسلامي؟

كما أننا لو تساءلنا عن دور الجبر، في تطوير علم الحساب، بحيث يتحول من علم الأرقام المحسوسة إلى علم الرموز المجردة، لأدركنا بعد الأخذ في حسابنا أن اسم الجبر نفسه عربي من ناحية الصيغة والاشتقاق، لأدركنا ما يدين به العقل الإنساني إلى العقل الإسلامي من وسيلة لا يستطيع بدونها السير والتقدم في ميدان علوم التقدير والضبط. وأن ذلك كله يرجع إلى المناخ الذي أنشأه القرآن[4].

إن الكلام الذي أورده بن نبي عن دور الحساب العشري والجبر وغيرها من علوم المسلمين في تطور العلم والحضارة، ليس المقصود منه ذلك التقليد الاندفاعي في ربط كل منجز علمي ربطاً آلياً بآية من الآيات الكريمة أو حديث من الأحاديث النبوية الشريفة، كما دأب على ذلك كثير من دعاة الاعجاز العلمي في القرآن والسنة بطريقة صبيانية. ذلك أن “القرآن الكريم لم يأت قطعاً، وبصورة مباشرة، لا بالحساب العشري ولا بالجبر، ولكنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي يتيح للعلم أن يتطور”[5].

ونتساءل لماذا وكيف ربط بن نبي بين القرآن وبين تطور العلم، وفي الوقت نفسه يرفض الربط الصبياني للآيات بالمكتشفات العلمية؟!

فيجيبنا بن نبي بملحوظة منهجية مهمة جداًّ، يعرفها علماء اجتماع المعرفة أو علم اجتماع العلم، وهي أن “تطور العلم لا يناط بالمعطيات العلمية فحسب، بل بكل الظروف النفسية الاجتماعية التي تتكون في مناخ معين”[6]. ولا شك أن التحول التاريخي الذي أحدثه القرآن في بنية التفكير، وفي البنى الاجتماعية والعلمية والثقافية، وفي مختلف المجالات، لا يمكن إنكاره ممن له نظر واطلاع، وبخاصة في نشأة العلم وتطوره.

وهذه هي الزاوية بالذات “التي نقدر منها العلاقات العامة بين الإسلام والعلم، فموقف الإنسان المسلم أمام عالم الظاهرات، والاتجاه الذي تتبعه العقلية الإسلامية تحت دفعة النص القرآني، والمناخ العقلي الجديد الذي ستتطور فيه هذه العقلية، هذه الأشياء هي في التالي العناصر الأساسية للقضية”[7].