بناء الشخصية السوية القادرة على مواجهة العصر وتحدياته، ليست عملية سهلة، ولكنها نتاج معرفة ووعي وجهد كبير، كما أنها عملية مستمرة، ومتطورة، ترتكز على غرس العديد من القيم والأخلاقيات والمهارات والسلوكيات والمفاهيم، ومنها المنافسة، فالجميع يتنافس على الموارد والفرص المحدودة، لذا كان تعليم الشخص أن يفوز، ذا نفع أكبر من تعليمه تجنب الخسارة، كذلك إذا قفز هدف المنافسة من الفوز إلى الاتقان والإجادة وتحفيز الإبداع، فإن المنافسة تكون خطوة في بناء الذات وتطويرها.
منذ عقود قدم مدرب كرة السلة الأمريكي “جون وودن” خلاصة خبرته الطويلة في تدريب أكبر الفرق الرياضية، فيما عرف بـ”هرم النجاح” محددا (15) قيمة يجب أن يتحلى بها الأشخاص ليكونوا قادة ناجحين، ومنها: التفاني والصداقة والولاء والتعاون والمبادرة، إلا أنه جعل التنافسية في قمة هرمه، مؤكدا أن القادة ينجحون عندما يبثون روح الثقة في فريقهم ليكون قادرا على المنافسة، فالتنافسية تحفز على بذل الجهد وتطوير الذات وابتكار الحلول والمثابرة للتغلب على الصعاب.
وقد اهتمت الدراسات النفسية بالمنافسة لتأثيراتها السلوكية، ودورها في بناء المشاعر والتصورات والنوايا والدوافع، لكن من يتأمل الحياة، سيجد أن المنافسة ضرورة، فلا حياة بدون منافسة، بدءا من تشكل الإنسان في الأرحام، ثم سعيه لاكتساب رزقه، وفي التجارب التاريخية، فالشيوعية عندما منعت المنافسة في الاتحاد السوفيتي، ونمطت الحياة الإنسانية، وحجبت دافعية الحافز عن تحريك الناس، لم تستمر إلا عمرا قصيرا، غير أن التجربة الرأسمالية عندما جعلت المنافسة هي أساس الحياة، أضعفت مفهوم التعاون والتراحم، فعانت مجتمعاتها من مشكلات كبرى كتفشي الجرائم والأمراض النفسية.
الابتكار والتطوير
المنافسة موجودة مع الإنسان منذ نزوله إلى الأرض، والاستراحة منها يعني تجميد القدرات وتغييب الإلهام والدافعية، غير أن المنافسة تحتاج إلى قدرات نفسية داخلية، وإلى بيئة خارجية محفزة ومكافئة، كما أنها لها ضوابط ومحددات وقواعد وقوانين لممارستها، وأهداف واضحة يتنافس الناس عليها، والبشر باعتبارهم متفاوتين، فإن بعضهم تُبث فيه روح جديدة مع المنافسة، فهو لا يتحرك إلا في أجواء تنافسية إثباتا لذاته وتأكيدا لتميزه وتفوقه على أقرانه.
تتنوع الدراسات النفسية والسلوكية والإدارية حول المنافسو، ووجدت دراسات أن المنافسة في إطار المجموعات الكبيرة ذات تأثير سلبي على الحافز، فدرجات الأفراد في الاختبار تنخفض كلما زاد عدد المتقدمين للاختبار، مما يدل على أن المتقدمين للاختبار كانوا أقل حماسًا للمنافسة، مع زيادة أعداد المنافسين.
ويلاحظ أن المجتمعات التي تقدر ثقافتها قيمة المنافسة تصبح أكثر حيوية وفعالية وابتكارا، خاصة إذا كان الشخص يقارن أدائه بغيره، وفق محددات موضوعية، ويتجلى ذلك في الجانب الرياضي خاصة في الرياضات الفردية مثل العدو والقفز، إذ يصبح الشخص قادرا على تقييم ذاته، لذلك نظم الإنسان منذ القدم المسابقات، مثل الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة عام 776 قبل الميلاد.
وتلعب الثقافة دورا في دعم قيمة المنافسة من خلال ما يسمى بـ”الحافز الخارجي” فالثقافات التي تشجع على المنافسة، تُوجد الحافز وتضع الضوابط، لكن تظل إيجابيات المنافسة منبعها الداخل، من خلال علو الهمة وتوفر الإرادة والرغبة في الفوز وتحسين الأداء والابتكار، ليقتصر دور الحافز الخارجي على توفير البيئة الصالحة للمنافسة .
وتؤكد الدراسات أن المنافسة تشجع على الابتكار، وتحسين الأداء الوظيفي، خاصة إذا اسُتخدمت باعتدال، يقول “أينشتانين” “الميزة التنافسية لأي مجتمع لن تأتي من مدى جودة تعليم مدارسه جداول الضرب والجداول الدورية، ولكن من جودة تحفيزهم للخيال والإبداع”، فالتحفيز على الخيال والابداع من خلال المنافسة هو مدخل للتطوير، إذ تخلق المنافسة الصحية طاقة عالية في النفس، وتنتج مرونة، فيبصر الشخص أكثر من طريق للفوز، فينشط الإبداع والابتكار.
وفي علم النفس الرياضي، تلعب المنافسة دورا في تحسين الأداء، فقد مكنت بعض الرياضيين من تحسين الأداء، خاصة إذا كان المنافس قويا، وذكرت أبحاث أن المنافسين الأقوياء يمنحون المنافس ضدهم فرصة ليتعرف على نقاط ضعفه وقوته بصورة عملية وواضحة، كما أن المنافس القوي يدفع غريمه للعمل بجدية أكبر، لذلك كان المنافس القوي فرصة أكبر للتعلم واكتشاف الذات والأخطاء والميزات .
المنافسة والأخلاق
توثر المنافسة في بناء الشخصية بصورة إيجابية، مادمت مقترنة بأخلاقيات أهمها التعاون، ولذلك فإن تنشئة الطفل منذ صغره على التنافس، المقترن بالتعاون ينتج شخصية سوية وإيجابية وقادرة على الابتكار والتجديد، ويشحذ همته، لكن ابتعاد المنافسة عن الأخلاق يجعلها عبئا على الشخص والمجتمع، فالمجتمعات ذات التنافسية المفرطة يكثر فيها الحسد والتشاحن، ومحاولات تحطيم الآخرين، والجرائم، ليصبح الفوز بأي ثمن وأية طريقة هو الهدف، وعندها تبزغ مبدأ “ميكيافيللي” “الغاية تبرر الوسيلة.
كما أن المنافسة المفرطة قد تؤدي إلى أمراض نفسية كالقلق والتوتر والاكتئاب والإحساس بالخزي الاجتماعي في حال الهزيمة، وأكدت دراسات نفسية أن “الأشخاص الذين يتسمون بالتنافسية المفرطة، يكون الدافع لديهم للمنافسة ناتجًا بشكل أساسي من عوامل خارجية وليس داخلية”، كما أن اندماج البعض المفرط في روح المنافسة يأتي على حساب صحته وأسرته وعلاقاته الاجتماعية؛ خاصة إذا قصر اهتماماته في الحياة على تحقيق إنجازا مهنيا ووظيفيا على أقرانه، وخلصت دراسات أن من يظن أن مكانته لن تتحقق إلا خلال المنافسة، فإنه قد يسعى إلى الفوز بطرق غير مشروعه وغير أخلاقية.
وقد اهتمت الرؤية الإسلامية بالمنافسة، وشجع عليها القرآن الكريم في قوله تعالى { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين : 26)، ومارسها النبي –ﷺ- فحث أصحابه على المنافسة في فعل الخيرات، لكن الإسلام رفض المنافسة القائمة على الصراع، ورأى علماء الأخلاق المسلمون أنها المنافسة فطرية، ورأوها سبيلا لاكتساب مكارم الأخلاق والصفات، فنجد “ابن القيم الجوزية” في كتابه “الروح” وصفها بـأنها: “المبادرة إلى الكمال الذي تشاهد من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه، فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر” ورأى أن “أصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبا ورغبة “، وفرق بينها وبين الحسد، فقال عن الحسد بأنه: “خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، ويتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم”، ثم قال “فالحسود عدو للنعمة متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس سابق النعمة متمن تمامها عليه وعلى من ينافس غيره أن يعلوا عليه ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره، حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة، فمن جعل نصب عينيه شخصا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرا، فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا تذمه”.
أما الإمام “الشوكاني” في كتاب”أدب الطلب ومنتهى الأرب” فتخوف أن تتحول المنافسة إلى الحسد، فتدفع الشخص لرفض الحق، فيقول:” ومن الأسباب المانعة من الإنصاف ما يقع من المنافسة بين المتقاربين في الفضائل أو في الرئاسة الدينية أو الدنيوية، فإنه إذا نفخ الشيطان في أنفهما، وترقت المنافسة، بلغت إلى حد يحمل كل واحد منهما على أن يرد ما جاء به الآخر، إذا تمكن من ذلك، وإن كان صحيحا جاريا على منهج الصواب، وقد رأينا وسمعنا من هذا القبيل عجائب صنع فيها جماعة من أهل العلم صنيع أهل الطاغوت، وردوا ما جاء به بعضهم من الحق، وقابلوه بالجدال الباطل والمراء القاتل.