لطالما شُغل الناس بموضوع (المهدي المنتظَر)، الذي وردت فيه أحاديث كثيرة اختلف العلماء في الموقف منها، بين مصحِّح ومضعِّف؛ حتى قال ابن خلدون في (مقدمته)، بعد أن أوردها وناقشها: “فهذه جملة الأحاديث التى خرَّجها الأئمة في شأن المهدى وخروجِه آخِرَ الزمان؛ وهى كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه”([1]).
ولم يجعل الشيخ محمد الغزالي (المهدي المنتظر) ضمن (العقائد) التي يجب الإيمان بها وتفصل بين المسلم وغيره؛ فيقول: “لما ألَّفت كتابي «عقيدة المسلم» لم أذكر شيئًا عن المهدي المنتظر، وعندما خوطبت في ذلك، وقيل لي: لِمَ لَمْ تذكره في علامات الساعة؟ قلت: من محفوظاتي وأنا طالب أنه لم يرِد في المهدي حديث صريح، وما ورد صريحًا فليس بصحيح! وإذا كان ما ورد لم ينهض إلى تكوين حكم ثابت، فكيف أجعله عقيدة تفصل بين الكفر والإيمان؟ وأردفت ضاحكًا: المشكلة الآن ليست في المهدي المنتظر، إنما هي في المهدي غير المنتظر، الذي يفاجئنا بظهوره بين الحين والحين، ويزيد العدد في إحصاء الدجالين”([2]).
وقد أحسن الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894- 1966م)- وهو أحد علماء الأزهر المرموقين، وصاحب العديد من المؤلفات المهمة في مجالات مختلفة- إذ نقل العقل المسلم إلى مستوى آخر من الاهتمام؛ بحيث يكون هذا العقل فاعلاً فيما يواجهه من تحديات ويتطلع إليه من أدوار، وبحيث ينتقل من الانتظار إلى الاشتباك، ومن حديث الغيب إلى واقع الشهادة، ومن الركون لفعل الغير إلى مسئولية الذات.
ففي ختام دراسته الموسعة عن المجددين في الإسلام، وتتبع آثارهم في مراحل التاريخ المتعاقبة، من القرن الأول الهجري حتى الرابع عشر- في كتاب ضخم زادت صفحاته على ستمائة صفحة- كتب الشيخ الصعيدي مبحثًا بعنوان: (المجدِّد المنتظر)”([3]).
في هذا المبحث أراد الشيخ الصعيدي أن ينقل الاهتمام من الحديث عن (المهدي المنتظر) إلى الانشغال بـ(المجدد المنتظر)، والاضطلاع بمتطلبات التجديد؛ الذي هو أمر ثابت صحيح، مستمر لا يتوقف، ويمثل امتدادًا لمهمة الأنبياء والمرسلين.
ويرى الصعيدي أن “فكرة المهدي المنتظر ظهرت أولاً بين طائفة الشيعة من العلويين والعباسيين؛ فالعلويون يزعمونه منهم، والعباسيون يزعمونه منهم حين آل الأمر إليهم، ولهم فيه أحاديث مروية عن النبي ﷺ. وقد استوفى ابن خلدون في مقدمته الكلام عليها، وأثبت فيها ضعف أسانيدها، ولكنها اشتهرت بين جمهور العامة.
ويشير الصعيدي إلى أن أبا جعفر المنصور، ثاني ملوك العباسيين، كان أول من أراد منهم أن يستغل فكرة المهدي المنتظر؛ لأنه كان يُسمَّى عبد الله، وكان له ابن يسمَّى محمدًا؛ فأراد أن يجعل منه المهدي المنتظر، لأن بعض الروايات ذكرت أن المهدي يوافق اسمه اسم النبي ﷺ، وأن اسم أبيه يوافق اسم أبيه.
ويضيف الصعيدي: وكان أبو العباس السفاح، أول ملوك العباسيين، قد بايع من بعده لأخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده لابن أخيه عيسى بن موسى؛ فلما تولى أبو جعفر المنصور أراد أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد ويجعلها لابنه محمد، فلقبه بالمهدي، وأشاع عنه تلك الأحاديث والتنبؤات التي تقصد إلى تقديسه.. فلما قام محمد بعد أبيه أبي جعفر لم يزد أمره على من قبله من الملوك، ولم يملأ الأرض عدلاً كما زعمت التنبؤات؛ بل ظهر أنها لم تكن إلا حيلة لِمَا أراده أبو جعفر المنصور من نقض العهد، وقطع رحم ابن أخيه، وإيثار ابنه عليه بالبغي والظلم.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، ولم يمتنع مَن جاء بعد أبي جعفر عن توظيف المرويات لأهدافه، كما يوضح الشيخ الصعيدي؛ بل “مضى كل من أتى بعد أبي جعفر المنصور وأراد أن يستغل فكرة المهدي على هذه الوتيرة: يسلك في أمره سبيل الخداع، ويزعم أنه لم يقم إلا بوحي من الله، ثم لا يلبث حتى تظهر حقيقته، ويتبين أنه ليس إلا طالب ملك، وأنه لم يجد وسيلة إليه إلا هذه الحيلة”.
ثم يوضح الشيخ أن فكرة (المجدد المنتظر) تختلف اختلافًا كبيرًا عن فكرة (المهدي المنتظر):
– من حيث الثبوت: فقد جاء في الحديث الصحيح: “إنَّ اللهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها” (رواه أبو داود عن أبي هريرة).
– ومن حيث الدور المنوط بها: في إصلاح الواقع، وتغيير الحال، والاستناد إلى الحجة والاقناع لا التنبؤات.
فيقول الشيخ: “أما فكرة المجدد المنتظر فتدخل في فكرة المجدد الذي يُبعث على رأس كل مائة سنة لا يبغي صاحبها ملكًا بين الناس، ولا يزعم أنه يقوم بوحي من الله، وإنما يدعو إلى التجديد والإصلاح بطريق الاجتهاد، ويؤيد دعوته بالدليل والبرهان، لا بتلك التنبؤات الموضوعة، ولا بدعوى الولاية والتأييد من الله تعالى؛ لأن الله تعالى قد أغلق باب الدعوة بهذه الوسائل بعد النبي ﷺ، وفتح باب الاجتهاد للناس ليصلوا إلى ما يلزمهم من التجديد والإصلاح في كل عصر، وتكون وسيلتهم إليه الإقناع بالدليل؛ ليؤمنوا بالإصلاح عن علم، ويأخذوا بالتجديد عن فهم”.
ويوضح الشيخ الصعيدي أن دعوة (المجدد المنتظر) يمكن أن يتفق عليها المسلمون، لخلوها من التلبيس الموجود في دعوة (المهدي المنتظر)، “بل يمكن أن يقع الاتفاق عليها من الناس جميعًا، فينتقل بها المسلمون إلى عهد وئام وسلام، ويمكن أن ينتقل بها الناس جميعًا إلى هذا العهد؛ لأنها تقوم على أساس الإقناع بالدليل”.
ويشير إلى أن دعوة (المجدد المنتظر) يكفيها أنها “تشبه دعوة الأنبياء والمرسلين في نبل الغرض، وفي خلوها من الخداع والتلبيس؛ لأن دعوتهم كانت بريئة خالصة، من دعوة نوح إلى دعوة محمد عليهما السلام؛ فيقول نوح لقومه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72). ويقول الله تعالى عن النبي ﷺ: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104)”.
إذن، الشيخ عبد المتعال الصعيدي يدعو إلى إحلال فكرة (المجدد المنتظر) محل فكرة (المهدي المنتظر)؛ موضحًا أن الأولى تنطلق من معنى ثابت، وهو ظهور مجدد- قد يكون فرداً أو مجموعة- في كل مائة سنة، ينفي عن الدين ما لحق به، ويعيد للمفاهيم صوابها، وللخطوات رشدها، ويصلح الله به ما فسد في واقع الناس.. ومن ثم، فإنها فكرة يُرجَى لها أن تكون محل اتفاق بين المسلمين- بل وبين الناس- لا محل اختلاف ونزاع كما في الفكرة الثانية؛ التي- مع إثارتها للنزاع- تسبَّبت في شيوع التواكل والانتظار والقعود، وعدم الاشتغال بما تُمليه اللحظة الراهنة، وتُوجبه المسئولية الفردية.
ولاشك أن فكرة (المجدد المنتظر) تتطلب أن نعمل على تهيئة العقول، وتجديد الفكر، والاعتناء ببرامج الدرس والتعليم، وبوسائل التربية والتوجيه.. حتى تتحول هذه الفكرة إلى (صناعة ثقافية ثقيلة)، تستطيع أن تسهم في معالجة الخلل الذي نعانيه، وتحقيق التجديد الذي ننشده..
وتلك غاية جليلة تستحق أن نحشد لها الطاقات، ونأخذها بجد وعزيمة وفاعلية..
([1]) المقدمة، 2/ 751، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، مكتبة الأسرة، 2006.
([2]) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، الغزالي، ص: 139، 140، ط3، 1402هـ.
([3]) المجددون في الإسلام، الصعيدي، ص: 586- 589، مكتبة الآداب، ط2، 1962م.