ما زال قضية الاحتفال بالمولد النبوي محل جدل كبير بين المسلمين في كل عام هجري، بين من يرى أن الاحتفال والاحتفاء بالمولد النبوي بدعة في دين وضلال عن هدي الرسول الأمين، وأن النبي ﷺ وصحابته الكرام والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم لم يعرفوا هذا الاحتفال، وأنه من الأعمال المردودة، كما ورد في حديث عائشة – رضي الله عنه-:” من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد”. أي مردود عليه.وأن أول احتفال بالمولد النبوي كان في عهد الدولة الفاطمية الشيعة الإسماعيلية، وأن هذا الأمر لم يخرج من رحم أهل السنة والجماعة.
وممن قال بحرمة الاحتفال بالمولد النبوي، الأئمة: ابن تيمية والشاطبي وتاج الدين الفاكهاني وغيرهم.
وفي المقابل، هناك من علماء أهل السنة والجماعة من يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي أمر مشروع، يدور بين الاستحباب والجواز، وأنه تذكير بأهم حدث في تاريخ الأمة، وهو ميلاد النبي ﷺ، وأنه واقع من التذكير الذي أمرنا به جملة، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
ومن أبرز الفقهاء الذين قالوا بجواز الاحتفال بالمولد النبوي الأئمة؛ السيوطي وابن حجر العسقلاني والسخاوي وابن عابدين وشمس الدين بن الجزري والنووي والقسطلاني وغيرهم.
وتحرير تلك المسألة يحتاج إلى مزيد إيضاح وبيان:
التفريق بين الاحتفال والاحتفاء
لابد من التفريق بين الاحتفاء والاحتفال. فالاحتفاء يعني الترحيب والتكريم، يقال: من عادة الشعوب الاحتفاء بذكرى استقلالها.
أما الاحتفال فهو إقامة نشاط معين، يجتمع الناس في حفل بمناسبة معينة، يتم فيه تبادل التهاني ويتخلله بعض الأنشطة والأفعال، وإن كان أحدهما يحل محل الآخر أحيانا.
وتطبيقا على المولد النبوي، فإن الاحتفال بالمولد النبوي مما هو مشتهر في بعض الأوساط بما فيه من المخالفات وما تكون فيه من ممارسة المنكرات من الاختلاط وضرب الدفوف وبعض المظاهر الصوفية، كالموالد والأناشيد التي تحتوي على كلمات غير مشروعة، أو فيها غلو وصخب، وغيرها من الأمور التي لم تعرف في الدين إلا في العصور المتأخرة وعلى يد الأعاجم، فهذا ممنوع شرعا.
أما الاحتفاء بالمولد النبوي من التذكير بميلاد النبي ﷺ وما تبعه من معجزات وبركات، والتذكير بفضل الله على المسلمين بإرسال محمد ﷺ رسولا إليهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الجمعة: 2].
كما أن ميلاد النبي ﷺ كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 129].
ومن أمثلة الاحتفاء التذكير بالمولد النبوي في الدروس في المساجد أو الإذاعة والتلفاز، وقراءة السيرة النبوية والشمائل المحمدية، وكل ما من شأنه التذكير بالمولد النبوي بطريقة علمية دعوية.
فلابد أن نفرق هنا بين الاحتفاء والاحتفال، فيكون الاحتفاء بالمولد النبوي جائزا، ويبقى الاحتفال محل خلاف بين الفقهاء.
هل مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي ترجع إلى الفاطميين؟
والثابت تاريخيا- كما ورد في كتاب (الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي للدكتور عبد المنعم عبد الحميد سلطان- دار الثقافة العلمية :1999م) أن هناك فرق بين احتفال الفاطميين بالمولد النبوي وبين احتفال المسلمين بمصر به، فيقول:” اقتصر احتفال المولد النببوي في الدولة العبيدية الفاطمية بعمل الحلوى وتوزيعها وتوزيع الصدقات، أما الاحتفال الرسمي، فكان يتمثل في موكب قاضي القضاة، حيث تحمل صواني الحلوى، ويتجه الجميع إلى الجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخليفة، حيث تلقى الخطب، ثم يدعى إلى الخليفة، ويرجع الجميع إلى دورهم، أما الاحتفالات التي كانت تلقى مظهر الاهتمام، فكانت للأعياد الشيعية”.
هل الاحتفال من الأعياد الدينية أم المناسبات التاريخية؟
فكما هو معلوم أن الاحتفال والاحتفاء بالمولد النبوي جاء في القرن الرابع الهجري، لكنه لا يتعلق بالتشريع، فلا هو تشريع بحرمة أو بوجوب، وإنما هو مناسبة تاريخية، فالناس يتذكرون ميلاد النبي ﷺ، ولا يتدخلون في التشريع ولا في الهدي ولا في الآداب، فهو أشبه بالاحتفال بالأعياد الوطنية للدول.
وقد انتهى الباحث زواري أحمد علي في بحثه: ( حكم الاحتفال بالأعياد الوطنية..دراسة تأصيلية” إلى القول بالجواز، وجاء في خلاصة البحث: ” بحثنا يتعلق بحكم الاحتفال بالأعياد الوطنية، التي أصبحت عرفا قائما في كل الدول ومعترف بها وطنيا ودوليا، وقد خلصنا في دراستنا إلى أنها جائزة، ولا تتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية؛ بل إن من دلائل مشروعيتها الاستعمالات اللغوية والشرعية المختلفة لمعنى العيد، كما أن القرآن الكريم جعل الاحتفال بمثل هذه الأيام التي كان سببها حدث في يوم ما أنها من التذكير بأيام الله تعالى، وهذا ما يجعلها تدخل ضمن العادات لا العبادات، وليست من المحدثات المنهي عنها، ويبقى أصل الإباحة قائما عند الافتقار إلى الدليل ولو اشتركت التسميات ما دام المسميات مختلفة.
كما ذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث بالمملكة إلى التفريق بين أنواع من الاحتفال، فرأت أن الاحتفال بالمولد النبوي وبعيد الأم أنه من البدع المنهي عنها، ولكن تنظيم أسبوع للتوجيه ونحوه لا حرج فيه، فجاء في فتواها:” وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها كأسبوع المرور وتنظيم مواعيد الدراسة والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله ﷺ: ” من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد فلا حرج فيه بل يكون مشروعا.
وأرى أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يتعلق بالعقيدة ولا بالعبادة، وإنما هو متعلق بالتاريخ؛ لأنه جزء من السيرة النبوية، ومن المعلوم أن أحداث السيرة النبوية جزء من التاريخ، ولهذا صنفت في كتب السير والتراجم والتاريخ الإسلامي.
والإشكال حاصل في مفهوم العيد والاحتفال. فلابد من التفريق بين الاحتفال والاحتفاء ابتداء، كما يجب التفريق بين نوع الاحتفال والاحتفاء وما يتبعه من أنشطة.
على أن التذكير بمولد النبي ﷺ من الأحداث التاريخية التي لا تدخل العقيدة ولا العبادة؛ فيحكم عليها بالبدعة. كما أنه لا يخفى الحاجة الماسة اليوم إلى التذكير بالسيرة النبوية والهدي النبوي وكل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين وآدابهم، في عصر يراد إبعاد الأمة عن دينها، بشرط ألا يصاحب التذكير بالمولد النبوي شيء من المنكرات، فإن صاحبه كان حراما؛ لاشتماله لتلك المحرمات، فيكون حراما لغيره، لا حراما لذاته، وقد تقرر عند الفقهاء:” الحكم يدور مع علته؛ وجودا وعدما”.