في أكثر من أربعمائة صفحة صدر العدد الحادي عشر من مجلة “الاستغراب” ربيع 2018، متناولا ملفا شائكا، ومتماسا مع الإنسان المعاصر، وهو ملف “الميديا”، فكان عنوانه “الميديا:إمبراطورية الصوت والصورة والصدى“، ويبدأ الملف من نقطة تأسيسية، وهي: أن الحداثة الغربية وجدت في الميديا ضالتها لاستمرار مشروعها الهادف إلى استمرار الإنسان في عالمه الأرضي، ودفعه مجددا نحو الوثنية، لذا تحولت الميديا إلى أداة للسيطرة والتحكم والهيمنة على العقول والمشاعر، فالحداثة اعتبرت الميديا وسيطا جيدا وقادرا على إقناع البشر بأن الغرب هو روح التاريخ الإنساني، وأن قيم الغرب عالمية.
والواقع أن المتحكمين في “الميديا” العالمية يشجعون القبول الأعمى لما يطرحه الإعلام، لذا يطرح البعض أن “الميديا” لا تقص التاريخ ولكن تتلاعب به، بل تهدم كل روح ناقدة، وتحطيم كل فكر يشعر بالمسؤولية، وحسبما يرى الأكاديمي الأمريكي “لانس بينيت ” فأن الميديا تلعب دورا في تزييف الواقع، فهي لا ترى في العالم غير الغربي إلا الفوضى والاضطراب، ومعظم عمليات تشويه الحقائق ليست نتاج عقل منحرف يقرر السيطرة على الناس فقط، بل نتيجة المنطق الداخلي الموجود في نظام الإعلام الإخباري التلفزيوني والذي يميل إلى اختيار المأساوي والشخصي والتجزئة للحقائق ليقدمه للناس.
وهو ما يطرح إشكالية دور الميديا في فقدان الحداثة لجاذبيتها، بعدما عرت “الميديا” قيم الحداثة بالكامل أما الإنسان المعاصر، وكشفت عن المستور من غاياتها؟ وتؤكد الحقائق أن “الميديا” نجحت في بناء جمهور عريض من البشر، لكن في مقابل ذلك تدنت في خطابها، وأوجدت بشرا يتلقى بلا تفكير.
الميديا والإسلام
تناولت “الاستغراب” العلاقة بين الميديا والإسلام من خلال عدة موضوعات، فالميديا الغربية بكافة أشكالها تقدم صورة خاطئة عن الإسلام، ويلعب التاريخ دورا كبيرا في صناعة هذه الصورة، وقد جُسد العرب والمسلمون، منذ العام (1896م) في السينما الأمريكية في (900) دور عدائي، ثم جاءت وسائل الإعلام الحالية فعززت تلك الصورة، وكذلك النظام التعليمي الغربي، فمعظم قصص الأخبار عن الإسلام والمسلمين في الإعلام موروثة عن التصورات التاريخية خاصة فترة الحروب الصليبية، وفترة الحروب الأوروبية مع العثمانيين، لذا يُقدم المسلمون على أنهم مصدر كل شر، وأنهم همجيون، بدائيون، شهوانيون.
وتعد هوليوود أحد أهم مراكز صناعة الصورة عن الإسلام والمسلمين، حتى ظهر مصطلح “هلودة الإسلام” فهوليود تقدم المسلمين بإحدى ثلاث صور، إما ملياردير سفيه، أو إرهابي، أو راقصة عارية، وهي صورة لا تختلف عن الصورة التي قدمها الإعلام في ألمانيا النازية عن اليهودي والتي مهدت لإبادات جماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية.
ولكن ما هو دور السينما الأمريكية في صناعة الوعي العالمي؟
يؤكد المؤرخ الأمريكي “إيريك بارنو”:”إن عنصر الخيال يفوق في الأهمية العنصر الواقعي في تشكيل آراء الناس” لذا تعد صناعة السينما ذات أهمية كبرى في رسم صورة الإسلام والمسلمين، فصناع السينما أصبحوا يقومون بدور فعال في بناء الوعي المجتمعي، بعدما احتلوا مكانة الفلاسفة والمفكرين.
والحقيقة أن “هوليود” عاصمة السينما العالمية، دائما مع جميع الإدارات الأمريكية، بل خاضت معها جميع معاركها، وأيدت جميع مصالحها، فإيديولوجية هوليوود هي أمريكا نفسها، لذا لم يكن غريبا أن يقول الرئيس الأمريكي “روزفلت” وهو يفتتح هوليوود عند إنشائها:”من هنا سنصنع عظمة أمريكا” .
ولكن ما علاقة هوليوود باليهود؟
يسيطر اليهود على كثير من شركات الإنتاج في هوليوود مثل شركة: فوكس، وغولدين، و مترو، وبرامونت، كما أن حوالي 90% من العاملين في الحقل السينمائي بمختلف مستوياته من اليهود، وهو ما أكده المنتج “جوئيل استين” قائلا:”نعم نحن اليهود نسيطر على هوليوود”.
لكن سباق هوليوود من أجل كسب الأرباح وجني المال جعلها تروج الرذائل، وتنتج ثقافة متدنية للغاية، كما أشار الكاتب الأمريكي “مارك وبر”، لكن يبدو أن هوليوود لها موقف مع الدين بصفة عامة وليس مع الإسلام فقط، إذ أن كثيرا من أفلامها التي أنتجت خلال الخمسة عشر عاما الأخير، تؤكد على رسالة مفادها: أن الدين ما هو إلا مرحلة تاريخية في حياة البشرية، وأن فكرة الإيمان بالغيب، لم تعد صالحة في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي، وبذلك تخلق هوليوود فجوة بين الدين كمفهوم وبين العلم التجريبي، وتجعلهما على طرفي نقيض، يستحيل اللقاء بينهما، لذا تأتي نظرية النشوء والارتقاء عند داروين كبديل عن خلق الله سبحانه وتعالى للإنسان، بل تدعم هوليوود من خلال إنتاجها النظريات الإلحادية في الفيزياء الحديثة، التي ترى أن الكون حدث من خلال انفجر عظيم وقديم.
وفي مستوى ثان تنتقل هوليوود للتعامل مع الدين، فعلى مستوى الوعي، تصور الدين أنه مادة التعصب والانغلاق والتطرف، وتؤكد أن التسامح يتحقق في المجتمعات عندما يكون الدين أقل.
ويلاحظ هنا أن المادية، هي المنبع الأساسي، الذي تغترف منه هوليوود، كل تجسيد للظواهر الغيبية في الأديان السماوية، بل إن بعض إنتاجها يبدي تعاطفا واضحا مع الشيطان، وتبحث فيه عن خير دفين، وتحث الإنسان على استخراجه، وتظلل تلك الرؤية فكرة ترسيخ محورية الحياة الدنيا في نفوس الناس، لتجعل منها الغاية والمقصد، مما يلغي فكرة الآخرة من الوجدان الإنساني.
وتلجأ هوليوود إلى تمييع الإيمان بالأديان من خلال مزجه بالأساطير والخرافات لتتوه الحقيقة الدينية وسط ضجيج الحكاية والصورة، فلا يستطيع المشاهد أن يلمس الفارق بينهما، ولكن تنطبع الصورة المشوهة في أعماقه مخلخلة إيمانه واعتقاده ورؤيته.
الأيديولوجيا الناعمة
تحدثت “الاستغراب” عن التلفزيون، ودوره في السيطرة على العقول والوجدان، حيث ظهر ما يمكن تسميته بـ”الأيديولوجيا الناعمة” في وسائل الإعلام، فالتلفزيون على سبيل المثال يلهث وراء الجماهير، وما يمارس الضغط على التلفزيون هو المحدد الاقتصادي، وهو بذلك يمارس نوعا من العنف “الرمزي”،فيملأ الدقائق الغالية بأشياء فارغة، لكن الحقيقة أن تلك الأشياء الفارغة تُخفي الأشياء الثمينة التي يجب أن تُقال .
فالتلفزيون يحتكر الحدث بدلا من تكوين العقل، وهنا يتلاعب التلفزيون بالعقول، فهو عندما يعرض أشياء فإنه يُخفي أخرى، وهنا يتحول من أداة لتسجيل الأحداث إلى أداة لخلق الواقع، بما يركز عليه وينتقيه من قضايا وأحداث، حتى الحياة الاجتماعي تفسر من خلال التلفزيون، وفي ظل أن المنطق التجاري هو الذي يفرض نفسه على الإنتاج التلفزيوني، فإن الاحتكارات تنشأ، والقاعدة تقول: أن الاحتكار يُقولب، والمنافسة تؤدي إلى التنوع، ومن ثم يصبح التلفزيون أداة إعلامية ذات استقلالية ضعيفة جدا، وهنا يحدث تناقض مع الشروط الثقافية والاجتماعية، ليصبح التلفزيون أمام اختيار كبير، هل يحمي قيم الحرية والاستقلال؟ أم يعمل بالمنطق التجاري والربحي، خاصة وأن الميديا الحديثة تلعب دورا في تصنيع قيم الاستهلاك؟
والحقيقة أن منطق التلفزيون يهتم بتحويل الوقت إلى جمهور، وتحويل الجمهور إلى نشاط اقتصادي، وبالتالي يتحول الوقت التلفزيوني إلى أرصدة مالية.