يقدم كتاب “النزاع على السنة: الإرث النبوي وتحديات التأويل واختياراته” لمؤلفه الدكتور جوناثان براون، الأكاديمي الأمريكي المسلم، إجابة متميزة لأزمة الثقة في الأوساط المسلمة والنابعة من الصراع المعرفي المعاصر بين الحداثة والتراث.

نشر الكتاب في ترجمة عربية قيمة عام 2020م عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ويمثل هذا العمل منعطفا مهما في فهم العلاقة بين المسلمين المعاصرين وتراثهم الفكري من زاوية إعادة تأطير فهمنا للتقليد الإسلامي ذاته.

تبلغ صفحات كتاب “النزاع على السنة: الإرث النبوي وتحديات التأويل واختياراته” 494 صفحة، موزعة على مقدمات تمهيدية وسبعة فصول أساسية وأربعة ملاحق تخصصية. وجاء بترجمة عمرو بسيوني وهبة حداد، وهما من ترجما أعمالا أخرى للمؤلف. ركز العنوان الأصلي الإنجليزي ( Misquoting Muhammad ) على الخطأ والنقل غير الدقيق، بينما ركز العنوان العربي على العملية الديناميكية للصراع الفكري بدلا من مجرد الخطأ.

مؤلف الكتاب جوناثان براون، الحاصل على درجة الدكتوراه في الفكر الإسلامي من جامعة شيكاغو، هو أستاذ مشارك في الدراسات العربية والإسلامية بقسم الشرق الأدنى للغات والحضارة في جامعة جورج تاون، وقد اعتنق الإسلام عام 1997 م، ويتميز بإجادة اللغة العربية إلى جانب تمرسه على المناهج النقدية الغربية.

جذور الأزمة والدافع المعرفي

يعتبر كتاب “النزاع على السنة: الإرث النبوي وتحديات التأويل واختياراته” استجابة مباشرة لأزمة الهوية والقلق المعرفي الذي يعاني منه المسلم خاصة في الغرب، وينبع هذا القلق من معضلة التصادم القيمي الحاد بين المعايير الثقافية الغربية المهيمنة وأحكام شرعية تراثية محددة.

يفرض هذا التصادم سؤالا ملحا: كيف يلتزم المسلم بإسلام تتعارض بعض أحكامه مع القيم الإنسانية الحديثة؟ وهذا الأمر يتضح مع تكرار أسئلة الطلاب والجمهور حول قضايا شائكة تتعلق بمعاملة النساء والعقوبات والعلاقات الاجتماعية، ما يعكس أزمة ثقة عميقة في التعاليم الإسلامية، وبدلا من تقديم فتاوى جديدة، قدم براون حلا “إبستمولوجيا” يتمثل في إعادة تأطير فهم التقليد الإسلامي ذاته.

الرسالة الضمنية للقارئ المسلم تبدو واضحة حول الحيرة والحاجة الملحة للمراجعة استجابة لسؤال الواقع المعاصر والمشاركة الحقيقية في العملية الفكرية الحيوية التي انخرط فيها الأسلاف من الصحابة إلى البخاري، ومن الغزالي إلى ابن تيمية، وصولا إلى محمد عبده والقرضاوي.

البناء النظري

حمل عنوان الكتاب دلالات عميقة تكشف عن نظريته الجوهرية، فعند تفحص العنوان الفرعي “الإرث النبوي وتحديات التأويل واختياراته” نجد أن الإرث النبوي موضوع أبدي للتحديات والاختيارات البشرية.

تستند أطروحه الكتاب إلى ركيزتين أساسيتين:

  • الأولى: محورية النص والسنة في العقل الإسلامي،
  • الثانية: حضور سؤال الواقع واستمرار التاريخ في تأثيره على فهم النصوص.

وأنتج التفاعل الديناميكي بين النص الثابت والواقع المتحرك حلولا وتأويلات متعددة ضمن سياق زمني، كانت نتيجة عملية مستمرة من الاجتهاد والتأويل.

المسار التاريخي والفكري

بدأ براون في كتابه بمعالجة المشهد المعاصر المعقد، موضحا كيف توظف الفرق المتصارعة النصوص للترويج لشرعية اختياراتها الفكرية والسياسية. وادعاء كل طرف امتلاكه للحقيقة المدعومة بنص، وانتقل بعدها إلى مسح تاريخي شامل لتطور التفسير والاجتهاد الإسلامي، وتوقف عند أبو حنيفة الذي استخدم القياس أداة اجتهاد، وعند مالك الذي اعتبر العرف من أدلة التشريع، وعند الشافعي الذي اعتمد على السنة بصورة كبيرة، كما يبرز براون أن النزاع امتد إلى جميع التخصصات الإسلامية لا الفقه وحسب.

لقد أولى براون ابن تيمية اهتماماً خاصاً، واصفاً إياه بـ “محطم الأيقونات”. لأنه تحدى المذهب السائد وقدم اجتهادات جديدة استجابة لسؤال الواقع في زمنه.

لقد خصص براون فصله الخامس لاستعراض المفارقة الكبرى بين جمود التمسك بالنص والثورة الفكرية، ورسم خريطة شاملة للتيارات الفكرية الإسلامية. وطرح في فصل آخر سؤالا معقدا عن الحقيقة والأمانة الفكرية: هل يعتبر من الكذب الحديث بصورة مغايرة عن النصوص؟ مشيرا إلى أن علماء المسلمين تفردوا بقواعد رواية علم الحديث شديدة الصرامة، ما مثل إرثا أكاديميا فريدا في تاريخ البشرية.

المنهجية والقيمة العلمية

إن المنهجية التي اتبعها براون والناجمة عن الجمع بين التحليل الطولي الذي يرصد تطور النزاع عبر الزمن، والتحليل الأفقي الذي يدرس الشرائح الفكرية المتزامنة، تظهر أن التقليد لم يكن كتلة واحدة متجانسة.

طبق براون منهجية التحليل الطولي لتتبع المسار الزمني للنص، ابتداء من السياقات والحديث النبوي الأصلي، وتبيان كيفية نشأة الاختيارات التأويلية المبكرة لدى الصحابة والتابعين. واستمر هذا التتبع عبر مراحل تاريخية رئيسية شملت عصر التدوين والمذاهب الكبرى، والعصر الكلاسيكي والمجددين، وصولا إلى عصر الحداثة والانقسامات الراهنة.

واستكمل براون منهجيته بالتحليل الأفقي، فدرس الشرائح الفكرية المتزامنة للتقليد في نقاط زمنية محددة، مبرزا التوترات الكلاسيكية الدائمة بين الأصوليين والمحدثين، والمتكلمين والفلاسفة، والصوفية والفقهاء. وهذا يؤكد الطابع الديناميكي والمستمر للتقليد.