تكثر الظواهر المقلقة في الغرب، ومنها “البشر الجراء” Human pups، وهم أفراد اختاروا أن يعيشوا كالكلاب، في حركتهم، وطعامهم، وأصواتهم، يعلنون عن أنفسهم لمن يريد أن يقتنيهم، ورغم ما يحيط بالظاهرة من انحرافات أخلاقية، إلا أن تكرار الرغبات لدى البعض ليعيشوا حياة الحيوان تتسع، وبعيدا عن غرائبيتها، فإن الظاهرة تعبر عن أزمة وجودية يعيشها الإنسان المعاصر، الذي فقد كثيرا من توهجه ببعده عن خالقه سبحانه وتعالى، فنسيان الخالق نسيان للنفس الإنسانية التي كرمها الله تعالى على سائر مخلوقاته.

في كتابه “روح الدين” يفرد الفيلسوف المغربي الدكتور “طه عبد الرحمن” حديثا عن النسيان، لكن يناقشه ليس باعتباره إحدى مشاكل الذاكرة، ولكن من خلال رؤية فلسفية ترى في النسيان أزمة وجودية، نسي فيها الإنسان ميثاقه مع ربه، فنسيه ربه وأنساه نفسه، بل إن “عبد الرحمن” يرى أن النسيان أصيل في الإنسان، فيقول: “كلما تأمّلتُ أحوال الإنسان في هذا الزمان واستغرقت في هذا التأمل، لم أزدد إلا يقينا بأنه لا كائن أنسى منه، حتى إني لو خُـيّرت في وضع تعريفه، فما كنتُ لأعرّفه بغير كونه الموجود الذي ينسى أنّه ينسى، ولو خيّرت في اشتقاق اسمه، فما كنتُ لأقول غير أنه اشتُق من لفظ النسيان بدل لفظ الأنس” ثم يقول: “ما كنت لأعتقد إلا أنه أنسٌ بما يجعله ينسى ما لا ينبغي نسيانه، لِـحرصه على بقاء نسيانه؛ إنه ينسى كل شيء يذكّره بأنه لا يملك من أمره شيئا، لا خَلقا ولا رِزْقا، ينسَى أنه كان في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، بدءا بظلمة العدم وانتهاء بظلمة الحس؛ ينسى أنه لم يخلق ذرّة من ذرات بدنه، ولا نسمة من نسمات روحه؛ كما ينسى أنه كان في فاقات بعضها أشد من بعض، بدءا بفاقة النور وانتهاء بفاقة العلم؛ ينسى أنه لم يَرزُق عينَه بصرا ولا أذنه سمعا، ولا لسانه نُطقا؛ يَنسى هذا وما دونه وما فوقه، حتى كان له النسيان ذكرا؛ وهل في النسيان أشدُّ من أن ينسى من لا ينساه، ولا يغيب عنه أبدا، ومن هو أقرب إليه من نفسه، ومن يحول بينه وبين قلبه”.

تلك أزمة الإنسان القديمة المتوارثة، التي بلغت حدا كبيرا مع الإنسان المعاصر في الحضارة الغربية، التي وصفها الفيلسوف المسلم “محمد أسد” في كتابه “الطرق إلى مكه” بقوله: ” بدأ يتبلور في ذهني أن نقص التكامل النفسي الداخلي للأوروبيين وحالة الفوضى اللاأخلاقية التي تسيطر عليهم قد تكون ناتجة من عدم وجود إيمان ديني قد تكونت الحضارة الغربية في غيابه، لم ينكر المجتمع الغربي الإله إلا أنه لم يترك له مكاناً في أنساقه الفكرية“، فنسيان الله، قد يكون بتجاهل أوامره، وطاعاته، والإعراض عن تعاليمه وتركها، ونسيان الميثاق بين الإنسان وربه، لذا تكرر في القرآن الحديث عن النسيان بمعانيه المختلفة، كذلك تحدث القرآن عن عقوبة ذلك النسيان، التي تكون من جنس الفعل، وهو نسيان الله سبحانه وتعالى لهولاء الناسين.

وقد وردت “نسي” ومشتقاتها في القرآن الكريم في (44) موضعا، موزعة على (21) سورة، و (37) آية ، وكان من أكثر الآيات إثارة للدهشة هو الحديث عن نسيان الإنسان لربه، ففي سورة التوبة “نسوا الله فنسيهم”[1]، وفي سورة الحشر “ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون”[2] ، وفي الحديث الذي جاء في صحيحي “مسلم” و”ابن حبان” عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال صلى الله عليه وسلم-:” يَلْقَى العبدُ ربَّه يومَ القيامةِ فيقولُ اللهُ جلَّ وعلا : أيْ فُلُ ألَمْ أخلُقْكَ؟ ألَمْ أجعَلْكَ سميعًا بصيرًا؟ ألَمْ أُزوِّجْكَ؟ ألَمْ أُكرِمْكَ؟ ألَمْ أُسخِّرْ لكَ الخيلَ والإبلَ؟ ألَمْ أُسوِّدْكَ وأذَرْكَ ترأَسُ وتربَعُ؟ فيقولُ: بلى أيْ ربِّ فيقولُ : فظنَنْتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ ؟ فيقولُ : لا يا ربِّ فيقولُ : اليومَ أنساكَ كما نسِيتَني”، وفُل: معناها أي فلان.

النسيان متأصل في الإنسان منذ بدء الخليقة، فآدم-عليه السلام- نسي، قال تعالى:” وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا “[3] والحقيقة أن امتحان الإنسان بالصراع مع رغائبه وشهواته، ما هو إلا مقياس لتأكيد خلافته للكون، فإذا غرق الإنسان في الرغائب والملذات فإنه ينسى المهمة التي جاء من أجلها إلى الأرض، فالشهوات من أبواب النسيان، جاء في تفسير “الظلال”: ” وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة، تُمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة، وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد; فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها…وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري؛ فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها، كانت أعلى في سلم الرقي البشري، وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت، كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى”.

النسيان..سعادة كاذبة

تحدث فلاسفة غربيون عن النسيان، ورأوا أن الذاكرة هي ما يميز الإنسان على غيره من المخلوقات؛ بل هي أساس لتحديد هوية الشخص، غير أن الفيلسوف الألماني “نيتشه” اقترب من الرؤية القرآنية في مفهوم النسيان لكن بطريقة عكسية، فاعتبر النسيان شرط لسعادة الإنسان والمجتمع، وعلل ذلك بأن الحيونات تعيش في سعادة لأنها تعيش بلا ذاكرة ولا تاريخ، فهي تعيش الحاضر كما هو، على خلاف الإنسان الذي لا ينسى ماضيه، معتبرا الذاكرة مصدرا لشقاء الإنسان.

والحقيقة أن ما يطرحه “نيتشه” يتجاوز فكرة نسيان حمولة الذاكرة من الألم والوجع الذي تعرض له الإنسان في رحلته  الحياتية، إلى معنى آخر، وهو نسيان الإنسان لميثاقه مع خالقه، ورسالته في الكون، والتكليف الذي تحمله منذ بدء الخليقة، فهذا النسيان “النيتشوي” يتسق مع رؤيته الإلحادية التي زعم فيها “موت الإله”، فنسيان الخالق هو نسيان للذات الإنسانية، ولا شك أن هذا النسيان هو راحة مؤقتة؛ لأنها انخفضت برتبة الإنسان من كائن عاقل إلى رتبة متدنية تنحصر اهتماماتها في الطعام والتناسل فقط، لذا قرن “نيتشه” النسيان باستمرار الحياة والسعادة، فالنسيان عنده يؤسس للحظة جديدة متحررة، والإنسان كلما نسي فإنه يولد من جديد، فالنسيان-برأيه- شجاعة، والتذكر من أخلاق العبيد!!.

لكن هذه الرؤية محل اعتراض، لأنها تشطب ذاكرة الإنسان، في كتاب “أترك الله؟ تذكر عناية الله في ثقافتنا”[4] لـ”جانيت طومسون” Janet Thompson تلمح الكاتبه إلى قضية مهمة وهي أن “الذاكرة تبني الإيمان”، وتؤكد أن الثقافة الغربية المتدهورة أخلاقيا نسيت عناية الله، وهذا النسيان-ربما- ستتوارثه الأجيال المقبلة، لذا تتخذ “طومسون” من نعم الله على الإنسان مدخلا لتذكير ذلك الإنسان المعاصر بخالقه، وبث الإيمان بقدرته، فنسيان الرب له مخاطره على الحياة.

أما كتاب “النسيان: صنع الثقافة الحديثة لفقدان الذاكرة”[5] لـ”فرانسيس أوجورمان” Francis O’Gorman فيؤكد أن النسيان يكشف عن رفض الثقافة الحديثة العميق للماضي، والاكتفاء بفكرة أن المستقبل -فقط- هو المهم في حياة الإنسان،  فالنسيان أصبح شرطا للوجود الحديث، فالتكنولوجيا الحديثة وحركة الحياة السريعة أصبحت تفصل البشر أكثر عن الماضي، لكن الثقافة قادرة على مقاومة الفقدان الجماعي للذاكرة، فالتاريخ يخلق الاحساس بالهدف، وما يرتبط بذلك من انتماء للزمان والمكان، فالنسيان عنوان لحداثة سريعة الزوال، ويخلق حياة قلقة مزعجة بلا معنى، تعمق النفعية وتصلح لخدمة الاحتياجات المادية وليس الروحية.

يرى “أوجورمان” أن من الأسباب التي جعلت القرن الحادي والعشرين يفقد الاتصال بالماضي، هو أن التاريخ أصبح سلعة، أُفرغت من معانيها بعد إخضاعها للمنطق التجاري، فالنسيان “مرض الزهايمر الثقافي الذي يعاني منه الإنسان المعاصر وهو راضي النفس”، وهكذا فإن الإنسان المعاصر يدخل عصر النسيان، ويفقد إحساسه بالتاريخ،؛ ذلك التاريخ الذي يجعل المكان والزمان مختلفين بالنسبة للإنسان عن الأماكن والأوقات الأخرى، لذا عرف العالم الأسواق الكبيرة المتشابهة التي لا يشعر الشخص تجاهها بأي ذكريات، لأنها لا تتميز عن بعضها البعض، فالمولات العملاقة تتطابق في بلدان العالم، ولم تعد لكل مدينة سوقها الخاص الذي يكشف عن شخصيتها وتاريخها، فالإنسان المعاصر تُلغى ذاكرته باستمرار، ويترك نهبا لنسيان لا يرحم، ولا يستريح هذا النسيان حتى يدع الإنسان بلا مستقر.


[1] سورة التوبة: الآية 67

[2] سورة الحشر: الآية 19

[3] سورة طه: الآية 115

[4] Forsaken God?: Remembering the Goodness of God Our Culture Has Forgotten

[5] Forgetfulness:Making the Modern Culture of Amnesia