ما الذي أصاب الإنسان، حتى لم يعد قادرا على مواجهة الحياة وتحدياتها، فمع كل أزمة، وتقلب تراه يسقط محطما، تذهب نفسه مع أقل خدش، وأدنى مشكلة، فيرفع راية الاستسلام، ويترك روحه وذاته نهبا للضعف والأمراض النفسية والاكتئاب، فتراه يكثر البكاء على كل شيء، فحسب منظمة الصحة العالمية فهناك مليار شخص يعاني من الاضطرابات و الهشاشة النفسية بشتى صورها، وهناك شخص من كل ثمانية يعاني نفسيا، غير أن مشاهدات الحياة المعاصرة قد تعطي إحساسا قويا بأن الرقم أكبر.
ولكن لماذا فقد الإنسان في تلك العقود المتأخرة قوته النفسية، وطاقته الروحية، وأصبحت روحه هشة، قابلة للكسر والتحطم السريع؟ هل يعود ذلك إلى أن انحسار التدين عالميا، حسب ما تؤكد دراسة رونالد إنغلهارت Ronald Inglehart “انحسار الدين” Religion’s Sudden Decline أن العالم أصبح أقل تدينا.
أم يرجع إلى فجوة التوقعات المتصاعدة، بفعل تطور وسائل الإعلام، التي نقلت أنماط الحياة المترفة، إلى كل شخص في حجرة نومه، فأصبح الشخص يقارن حاله بما يراه، ومع مرور الزمن أنتجت المشاهدات المتكررة آثارها النفسية المدمرة.
لن أمهد الغابة من أجلك
في كتابه “تدليل العقل الأمريكي”: كيف تعمل النوايا الحسنة والأفكار السيئة على إعداد جيل للفشل” يرى مؤلفه “جريج لوكيانوف” Greg Lukianoff وجود أخطاء هيكلية في التعليم والتنشئة، تسببت في إنتاج أجيال فاشلة، فيقول:” تعليم الأطفال أن الفشل والشتائم والتجارب المؤلمة ستلحق ضررًا دائمًا هو أمر ضار في حد ذاته، يحتاج البشر إلى تحديات وضغوط جسدية وعقلية وإلا فإننا نتدهور”، فمسألة طغيان السكون والدعة وفكرة الأمان التام وتغييب التحديات، يمنع الأطفال من تقوىة عزائمهم ونفوسهم، وأن تتسرب القوة من الأجساد إلى الأرواح، لذا فإيجاد قدر معتبر من التحدي ينشيء نفوسا قويا وشخصيات صلبة، يقول “لوكيانوف” :”لا أريدك أن تكون آمنًا أيديولوجيًا، لا أريدك أن تكون آمنًا عاطفياً، أريدك ان تكون قويا، لن أقوم بتمهيد الغابة من أجلك، ارتدِ بعض الأحذية، وتعلم كيفية التعامل مع الشدائد” وينطلق من حكمة أن الرياح تطفيء الشمعة لكنها تشعل نارا، لينصح المربين ألا ينشئوا الأولاد لتكون كالشموع، فيقول: “أريدك أن تكون النار وتتمنى الريح”، وغياب التحديات سيؤدي إلى تدهور الإنسان حتما، فالعضلة لا تتشكل إلا من خلال مقاومتها للأثقال.
ينصح “لوكيانوف” في كتابه “تدليل العقل الأمريكي” بتعلم مضادت الهشاشة النفسية بشكل غير مباشر، فيقول:”لا يمكنك تعليم مضادات الهشاشة النفسية بشكل مباشر، ولكن يمكنك منح أطفالك موهبة الخبرة – آلاف الخبرات التي يحتاجون إليها ليصبحوا بالغين مرنين ومستقلين” فيجب على الأطفال أن يتعلموا كيفية الحكم على المخاطر بأنفسهم، وأن يمارسوا تجربة الانتصار عليها، لكن أنماط الحياة المعاصرة تحول دون أن يواجه الأطفال التحديات بأنفسهم، ويجب أن يتعلم الأطفال الاستقلالية والقدرة على السقوط والنهوض مرة أخرى دون أزمات نفسية أو اكتئاب.
ولعل نصائح ” لوكيانوف” في دراسته “تدليل العقل الأمريكي” تذكرنا بالطريقة التي ربت بها السيدة صفية بنت عبد المطلب –رضي الله عنها- ابنها الزبير بن العوام-رضي الله عنه- إذ كانت تربيه على الخشونة والقوة، تقول كتب السير: “وجعلت لعِبه في بَرْيِ السهام، ودأَبتْ على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ، وتقحمه في كل خطر إقحامًا، فإذا رأته أحجم، أو ترّدد ضربته ضرباً مبرِّحاً، حتى عوتبت في ذلك.
وفي إطار الحديث عن الهشاشة النفسية، وعلى غرار دراسة لوكيانوف “تدليل العقل الأمريكي” أكدت دراسات أمركية أن الاكتئاب والانتحار والتوتر يقف وراءه الهشاشة النفسية والعاطفية، فالأفراد يعانون من نقص في موارد قوتهم النفسية، القادرة على التغلب على المصاعب والشدائد والتحديات، كما أنهم لا يملكون المهارات والاستراتيجيات لتجاوز محنهم.
كيف نتغلب على الهشاشة؟
من النصائح التي يقدمها علماء النفس والتربية للتغلب على الهشاشة النفسية:
–معرفة الذات: فمن الضروري أن يعرف الإنسان ذاته، ويعرف نقاط قوتها وضعفها، فالذات هي التي تواجه، ومن الضروري أن يكون الشخص مدركا إمكاناتها، وهذا الإدارك يجنب الشخص مأزق أن يكتشف ذاته أثناء المواجهة، وفي الحديث النبوي: ” لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفسَه, قالوا : وكيف يُذِلُّ نفسَه ؟ ! قال : يتعرضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ “.
–القدرة على تحمل المسئولية: ما نلاحظه في الحياة، أن سن الطفول أصبح متأخرا، فبعض الشباب لم يغادر الطفولة حتى بعدما تجاوز عمره العشرين، فمازال يعتمد على والديه، وعندما تنظر في تنشئته تجد أنه خلال سنوات عمره لم يتحمل إلا مسئوليات قليلة وباهتة أضعفت شخصيته، وقد نكون منصفين إذا قلنا أن الهشاشة النفسية أغلبها يرجع إلى التنشئة والبيئة.
–اكتساب الخبرة والقدرة للتعامل مع المكاره: فتكرار التعامل مع المواقف المختلفة، والمشاعر المؤلمة يدرب العقل أن الحياة كتاب كبير، ويحوي صفحات مبهجة وأخرى غير ذلك، وعلى الشخص ألا يُلقي الكتاب إذا قابلته صفحة لم تأت كما يجب، ولكن عليه أن يطويها، لأن بعدها أخرى قد تكون أكثر إشراقا، هذه الآلية النفسية تمنح العقل ألا يسلط نظره على الأزمة القائمة، وإنما يجتهد للبحث عن مخرج سريع، فليست كل الأبواب مغلقة، ولعل هذا ما أكدته الآية الكريمة :” إن مع العسر يسرا” أو الحديث الذي رواه مسلم: “واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان” .
–الحفاظ على التدين روحا وسلوكا: فمعظم الدراسات النفسية تؤكد وجود ارتباطات إيجابية بين التدين والروحانية وبين جوانب الصحة العقلية، لذا يجب أن يعلم الشخص أن له ربا قويا يسانده إذا وقع في كرب أو مشكلة، ومن الواجب أن يكثر اللجوء إليه، فـ” العجْز هُو أجمَل إشارةٍ ربَّانية مِن الله للإنْسان بأَنَّ وقتَ الدُّعاء قَد حَان” كما يقول جلال الدين الرومي، وأنه “حِين تذهَب إلى الله مكسُور الجَناحين تعُود مُحلِّقا “، “فمن نافذة عجزك انظر إلي عجز العالم كله، ومن نافذة أنواع العجز انظر إلي القادر علي الإطلاق”، هذه الرؤية تشكل حاجزا أمام الضعف النفسي والاكتئاب والانتحار، لأنها تفتح للإنسان أبوبا من الصلة مع السماء، فيطلب منها المساندة والعون.
–الابتعاد عن القلق والاحباط: فالقلق المزمن يحطم النفس، ويقتل ثقة الإنسان بنفسه، وعلى الإنسان أن يقنع نفسه بما يغلق أبواب القلق، فالسعادة والقوة تبدأ من الذات، وكما يقولون ” “الكلمات مهمة، والكلمات الأهم هي تلك التي تقولها لنفسك “، تقول الحكمة: ” إذا لم يكن هناك حل للمشكلة فلا تضيع الوقت في القلق بشأنها، إذا كان هناك حل للمشكلة فلا تضيع الوقت في القلق بشأنه”.
– تعلم مهارة البحث عن حلول: فالبحث عن حل أثناء الأزمة، يصرف العقل والنفس نحو التغيير والسلوك الايجابي، فالأنهار لا تقف أمام العقبات ولكن تحتال عليها لتجري في مساراتها الطبيعية.
–تقبل الاخفاقات: فمما يقوي العزائم، الاعتراف بأن الاخفاق قد يقع، لتبقى الأزمة في الاستسلام له، والرؤية الإسلامية تذهب أن الإخفاق في الطاعة-مثلا- ليست مدعاة للغوص في وحل الرذائل، ولكن هناك طريق مفتوح دوما للتوبة والاستغفار، يقول الشيخ فريد الأنصاري :” التوبة إلى الله عزيمة وإرادة.