الهوية علائقية بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهوية تعني وجود هوية مقابلة لها، الهوية بطبيعتها علائقية، لا توجد في فراغ، انها نسيج صلات متشابكة، وصيرورة مستمرة تتحقق بها أنماط وجودها.
الهوية ليست صخرة جامدة، الهوية الحية ديناميكية، تتفاعل وتنفعل، تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي، ويعاد تشكلها على الدوام عبر الاستيعاب والتمثل.
تتشكل الهوية الحية تبعا لكيفية صلاتها وعلاقاتها بالهويات الأخرى الموازية لها، فهي تصاغ في سياق: تضادها، تضامنها، تسوياتها، تساكنها، مع الهويات الأخرى. ففي سياق تضادها تتحقق الهوية بإعادة تعريف ذاتها، كي تستجيب لنزوعها للتفرد والتميز، فتعمل على اكتشاف وتكريس مزاياها وميزاتها الثقافية والرمزية والحضارية، وتحاول تكريس ما هو حاضر منها، وإحياء ما هو منسي وما يمكن إحياؤه وتنميته منها. في سياق تضامنها تتحقق الهوية بكيفية تتعلم فيها من هويات ديناميكية خلاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافية وحضارية، فرضت حضورها عالميا، فتبحث الهوية عن المشتركات وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها منها، من غير أن تنصهر في تلك الهوية الأخرى.
وفي سياق التسويات تتحقق الهوية بكيفية تتفادى فيها الصدام والصراعات المسلحة مع الهويات المنافسة، وتتمرن على سياسة الاحتواء ما أمكنها ذلك، ولا تتورط في المواقف الصفرية، التي تخسر فيها كل شيء. وفي سياق تساكنها تتحقق الهوية بكيفية تعيد فيها تعريف ذاتها، واكتشاف حدودها بوضوح وحدود غيرها من الهويات المساكنة لها.
الهوية كائن حي في حالة صيرورة مستمرة، وكل صيرورة تحول متواصل، لا تولد أية هوية ناجزة مكتملة، الهوية تتخلق عبر الزمن، في سياق علاقاتها بالهويات الأخرى، وتجاربها وخبراتها، وقدرتها على التفاعل الخلاق مع غيرها، فكل تجربة في تفاعل للهوية مع هوية مختلفة دينيا وعقائديا وثقافيا ولغويا تترك بصمتها في بناء هذه الهوية وإعادة إنتاجها لذاتها. وكما تحدث النجاحات والانتصارات أثرها في تكامل الهوية وتثريها، تحدث الصدمات العظمى والانكسارات والهزائم آثارها الموجعة وجروحها العميقة، عبر استفزاز الهوية الحية إلى إعادة النظر في: رؤيتها للعالم، وثقافتها، ومفاهيمها الأساسية، فتسارع إلى تفكيكها ونقدها وتمحيصها، والتحرر مما قادها لهذه الصدمات والانكسارات بشجاعة.
الهوية كائن اجتماعي ثقافي لغوي سياسي متحول، تعيش الهوية في عالم تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة متنوعة. لا تستطيع أية هوية عزل نفسها عما يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حاد التغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كل شيء فيما تظل الهوية ساكنة. مهما حاولت الهوية أن تسجن نفسها في محيط خاص بها تفشل، وفي هذا العصر الرقمي يصير فشلها حتميا، فهي أمام خيارين: أما أن تواكب ايقاع الواقع، أو تنسحب منه وتنكفئ في متحف الهويات القابعة في متحف التاريخ.
إذا تعطلت ديناميكية تفاعل الهوية مع العالم الذي تعيش فيه، وعاندت الواقع، وأنكرت ما يجري من حولها، فإنها تنغلق على نفسها، وتنكمش وتتصلب، وتندثر وتنسحب من العالم في خاتمة المطاف. ممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كل هوية تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحولات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تغيب، إذ إن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرته.
بنية الهوية في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة عميقة تتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعددة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلب معرفتها تفكيرا صبورا، يتوغل في طبقاتها، ويحلل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة.
تسارع تحول الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو والمنعطفات والقفزات الهائلة في العلوم المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، فقد تعددت وجوه الهوية وتنوعت أبعادها. الواقع الشديد التحول يفرض عليها أن تصير سيالة متغيرة، تتعدد عناصرها وتتنوع مكوناتها تبعا لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتحول، لذلك يفرض الواقع الراهن على الهوية التي تتشبث بالبقاء طريقة للعيش تواكب إيقاعه، كي تبقى مسجلة على قيد الحياة، وإن كانت هذه المواكبة قلقة مضطربة مشوهة هشة في مجتمعاتنا. لا خيار للهوية إلا أن تخرج من قوقعتها، كي لا يمحو وجودها واقع يتغير فيه كل شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربة مشوشة.
الهوية المفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة بلا وجل، وبما أنها في حالة تشكل متواصلة فهي في حالة تعلم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقا مضيئا لانهائيا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردا ومجتمعا، وإثراء هويته وإنضاجها.
ولا تدعي الهوية المفتوحة احتكار الحقيقة مثلما تفعل الهوية المغلقة، وإنما ترى الحقيقة وطرق الوصول إليها أوسع من أن تحتكرها هوية خاصة، أو يحتكرها عقل واحد. وذلك ما يجعل الهوية المفتوحة مستعدة لمسائلة ذاتها، ونبش أرشيفاتها، واكتشاف ثغراتها، والنظر لتاريخها بوصفه محكوما بما يخضع له تاريخ المجتمعات من صعود وهبوط، وانتصارات وهزائم، وتقدم وتخلف، ولا تراه تاريخا استثنائيا متفردا، يتفوق على المجتمعات البشرية في مختلف مراحله وعصوره.
ويفرض على هذه الهوية وعيها النقدي التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وتتعامل مع ما حدث في تاريخها بجسارة، ولا تلجأ للتنكر لما حدث فيه من مظالم واضطهادات للمختلف أحيانا والتنكيل به. الإنسان الذي يتربى في سياق هوية مفتوحة تتحلى شخصيته باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافية واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته.