إن المتأمل في كتاب الله الحكيم يجد آيات بينات تثبت نعمة الهداية في حق الحبيب . ولأن هذه الهداية هي أصل رسالته وتاج فضله، نستعرض في هذا المقال الآيات القرآنية التي تتناول هذا الجانب العظيم، ونقف على عمق دلالاتها وشمولية معانيها مبينين كيف كانت هذه الهداية هبة مشن الله، وكمالا في الرسالة، ونورا للعالمين.

آيات في هداية النبي

هذه وقفة مع الآيات الواردة في ذلك مع تفسيرها.

1- قوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } [الأنعام: 161]

قال في تفسير المنار: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم}؛ أي: قل أيها الرسول الخاتم للنبين لقومك وسائر أمة الدعوة – وهم جميع‌‌ البشر -‌‌: إنني أرشدني ربي وأوصلني بما أوحاه إلي بفضله واختصاصه في هذه السورة، وكذا غيرها إلى طريق مستقيم يصل سالكه إلى سعادة الدارين – الدنيا والآخرة – من غير عائق وتأخير; لأنه لا عوج فيه ولا اشتباه؛ كما قال في آية أخرى: { ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2]، وهو الذي أدعوكم إلى طلبه منه تعالى في مناجاتكم إياه: { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6].

{دينا قيما}؛ أي: إن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي يصلح ويقوم به أمر الناس في المعاش والمعاد، فقوله: (دينا) بدل من صراط مستقيم باعتبار المحل، و(قيما) صفة له، وقد قالوا: إنه أبلغ من المستقيم بزنته وهيئته، وهذا أبلغ بصيغته وكثرة مادته، وقيل بما في الصيغة من معنى الطلب، فكان المستقيم هو الذي يقتضي أن يكون الشيء قيما، أو يجعل ذلك سهلا، وتقدم في تفسير قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } [المائدة: 97]، ما يفيد القارئ تفصيلا فيما فسرنا به الدين القيم.

قال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى: أمر الله تعالى نبيه أن يبين أنه يسلك الخط المستقيم الذي هو الدين القيم، وأنه ملة إبراهيم عليه السلام، قل يا محمد، أيها النبي الأمي العربي: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم.

كان ذلك الأمر للنبي ؛ ليخاطب به العرب مخبرا عن نفسه الكريمة، وعمن اتبعه من المؤمنين: هداني ربي الذي خلقني، وربني، وقام على كل ما أقوم عليه، فهو القوام على كل نفس، والقائم على كل شيء، فوصف الربوبية في هذا المقام للدلالة على أن الهداية منسوبة إلى الخالق المكون، فهي هداية حق لا ضلال فيها، ولا أوهام ولا أهواء عند الله سبحانه وتعالى، وقد أكد أن الهداية من رب الوجود بـ(إن)[1].

أوصاف الهداية الثلاثة

والهداية كانت إلى دين اتصف بأمور ثلاثة:

  • أولها: أنه صراط مستقيم؛ أي: طريق مستقيم موصل إلى الحق الذي لا ريب فيه من غير التواء ولا اعوجاج، فليس فيه تعقيد، بل إنه الفطرة المستقيمة، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
  • الوصف الثاني: قوله تعالى: (دينا قيما)؛ أي: حال كونه دينا صحيحا، قيما و(قيم) مصدر قوم، وزن فعل؛ كعوج، وهو نقيضه، وقرئ: (قيما)؛ أي: هو في ذاته قيم، بلغ أعلى المنزلة في الأديان، والقراءتان متلاقيتان في المعنى، وفي القراءة الأولى كان المصدر وصفا، وذلك في معنى المبالغة في أنه قيم وقويم؛ كقولك: فلان عدل.
  • الوصف الثالث: وهو شرف إضافي، – ملة إبراهيم – فالوصفان الأولان ذاتيان; لأنهما وصفان حقيقيان؛ لأنهما مشتقان من ذات الدين، وذلك الوصف هو قوله تعالى: { ملة إبراهيم حنيفا } [البقرة: 135]، وذكر هذا الوصف؛ ليبين للعرب الذين كانوا يتفاخرون بنسبهم إلى إبراهيم، وبأنه أبو العرب، ويدعون أنهم على ملة إبراهيم مع عبادتهم الأوثان، فالنبي – – يبين لهم بأنه هو الذي على ملة إبراهيم، وليسوا هم على ملته في شيء.

وهنا وصف ذاتي لهذا الدين جاء في أثناء ذلك القول، وهو قوله تعالى: ﴿ حنيفا ﴾؛ أي: غير منحرف إلى باطل، بل هو مائل إلى الحق متجه إليه، فهو مستقيم متجه إلى الحق، فـ﴿ حنيفا ﴾ صفة للدين.

2- قوله تعالى: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2]

الشاهد الجملة الأخيرة من الآية، وإليك بيانها: قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: يزيدك هديا لم يسبق، وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبي – – من وقت بعثته، ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة، وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين؛ مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم، وحماية أوطانهم، ودفع أعدائهم، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديه إليه، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه، وكل ذلك من الهداية، والصراط المستقيم مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة.

وتنوين صراط للتعظيم، وانتصب “صراطا” على أنه مفعول ثان لـ”يهدي” بتضمين معنى الإعطاء، أو بنزع الخافض كما تقدم في الفاتحة.

2- قوله تعالى: { ووجدك ضالا فهدى } [الضحى: 7].

قبل أن أسرد أقوال المفسرين في معنى الآية الكريمة، أشير إلى قضية هامة، ألا وهي: أنه لا يجوز أن يفهم من الضلال هنا هو ما يقابل الهدى، بل المراد به شيئا آخر كما سيأتي بيانه، وقد نبه عدد من أهل العلم – قدامى ومعاصرين – إلى عدم جواز حمل الضلال في الآية إلى ما يقابل الهدى، وأكتفي بذكر كلام بعضهم لضيق المقام.

قال المفسر علاء الدين علي بن محمد المعروف بالخازن في تفسيره لباب التأويل في معاني التنزيل: ولا يلتفت إلى قول من قال: إنه كان قبل النبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام؛ لأن نبينا ، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشؤوا على التوحيد، والإيمان قبل النبوة وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده، ويدل على ذلك أن قريشا لما عابوا النبي ، ورموه بكل عيب سوى الشرك وأمر الجاهلية، فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلا؛ إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه، ولنقل ذلك، فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به، ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الراهب حين استحلف النبي باللات والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام، فرأى بحيرا علامة النبوة فيه وهو صبي، فاختبره بذلك، فقال النبي : (لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما)، ويؤكد هذا شرح صدره في حال الصغر، واستخراج العلقة منه، وقول جبريل: هذا حظ الشيطان منك، وملؤه حكمة وإيمانا، وقوله تعالى: { ما ضل صاحبكم وما غوى } [النجم: 2].

وقال الطاهر بن عاشور: وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا، ولم يختلف أصحابنا أن نبينا لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله: { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون } [يونس: 16]، وقوله: { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} [المؤمنون: 69]، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا.

ويقول الدكتور محمد عزت دروزة – ملخصا ما ذكره المفسرون في هذا الصدد -: إن الآية تحتوي إشارة إلى حادث تيهان وقع للنبي في طفولته، أو في إحدى رحلاته، ورووا في ذلك روايات، كما قالوا: إنها تعني أنه كان غافلا عن الشريعة التي لا تتقرر إلا بالوحي الرباني، أو إنه كان حائرا في أسلوب العبادة لله، ونفوا عنه أي حال أن يكون ضالا أي مندمجا في العقائد والتقاليد الشركية، والنفس لا تطمئن إلى رواية تيهان النبي مضمونا وسندا، بل إنها ليست متسقة مع ما تضمنته الآية من من الله على النبي بأعظم إفضاله عليه، وتفسير ضال بحائر يحمل معنى الآية على أنه المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يسار فيها إلى الله وعبادته على أفضل وجه، وهو المعنى الذي نراه.

تفسير القرطبي لـ { ووجدك ضالا فهدى }

وأختم بذكر الأقوال الواردة في تفسير الآية الكريمة: لقد ذكر القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيرها ما يقرب من خمس عشرة قولا، بعضها ضعيف وبعضها متداخل، ولذا سأذكر هنا ما هو أقرب إلى الصواب:

  • الأول: أي – وجدك – غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك؛ أي: أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة؛ كقوله جل ثناؤه: { لا يضل ربي ولا ينسى } [طه: 52]؛ أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه: وإن كنت من قبله لمن الغافلين.
  • الثاني: وجدك ضالا لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما، وهو معنى قوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [الشورى: 52]، وقال قوم: ووجدك ضالا؛ أي: في قوم ضلال، فهداهم الله بك؛ هذا قول الكلبي والفراء، وعن السدي نحوه؛ أي: ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم.
  • الثالث: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير؛ لأن الضال متحير.
  • الرابع: ووجدك ضائعا في قومك، فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي

بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
  • السادس: ضالا في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب؛ قال ابن عباس: ضل النبي – – وهو صغير في شعاب مكة)… إلخ القصة، وهي ضعيفة.

قال القرطبي: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي، والقول الأخير أعجب إلي؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية.