عن الخباب بن الأرت رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظلِّ الكعبةِ ، فقلنا : ألا تستنصرُ لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال : ( قد كان مَن قبلكم ، يؤخذ الرجلُ فيحفرُ له في الأرضِ ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشارِ فيوضع على رأسِه فيجعلُ نصفين ، ويمشط بأمشاطِ الحديدِ ما دون لحمه وعظمه ، فما يصدُّه ذلك عن دينه ، واللهِ لَيُتمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرمَوت ، لا يخاف إلا اللهَ ، والذئبَ على غنمِه ، ولكنكم تستعجِلون). صحيح البخاري.
لقد عانى الصحابة رضوان الله عليهم – كما الحال في قائدهم الأعلى عليه الصلاة والسلام – في مستهل الدعوة الإسلامية كثيرا بسبب تبنيهم لمبادئ الدين الحنيف ، و أوذوا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأعراضهم ، وعذبوا بشتى صنوف العذاب حتى زلزلوا وبلغ منهم البلاء مبلغا عظيما .
هنا وفي مثل هذه المواقف بالغة الصعوبة ، وقد نفد صبرهم ، واضطربت أرواحهم ، وجزعت نفوسهم ، وتبعثرت آمالهم و أحلامهم ، يلجؤون إلى منبع إلهامهم ورواء ظمئهم وشفاء صدورهم الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، طالبين النصر و الدعاء بالفرج القريب والتعجيل بإزالة الكرب .
والصحابة وإن كانوا راسخين في الإيمان ثابتين في المعتقد والمواقف ، لكن طبيعتهم البشرية تنزع وتميل بهم نحو التعجيل بالنصر ورفع المعاناة ، واختصار الطريق إلى الهدف والغاية المنشودة ، بمعجزة إلهية أو خرق لقانون الأسباب والسنن البشرية ، وهذا ما يصيب أصحاب الدعوات وحملة الفكر في مراحل انسداد الأفق واستحالة التغيير .
لكن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وهو الحكيم البارع الحصيف الفطن ، يعالج الأمر معالجة هادئة بعيدا على العواطف الملتهبة والمشاعر الجياشة ، فيوجه حملة الرسالة وذوي الألباب توجيها منهجيا متوازنا سلميا واضحا ، خلاصته :
–إحالتهم لتاريخ الأمم والشعوب وأصحاب الدعوات السابقين لهم ، الذين عانوا في سبيل إتمام الدعوة ونشرها ، وضحوا تضحيات عظيمة سُطرت لهم وخلدها التاريخ البشري . و كأن النبي الكريم يوحي لهم بطرف خفي ، بأن ما أنتم عليه ليس ببدع من الأمر ، و لستم الأوحدين فيه ولا الأسبقين إليه ولا يقاس بتضحيات الأولين ، فالبذل والتضحية سنة معروفة معهودة في الأمم ، ولم لن يتم الأمر بدونها
قال الله ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) . البقرة 214. وقال (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) يوسف : 110 .
” وما من شدة تصيب الأمم إلا وهي دون الشدة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله استبطاء له ، وهم أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم اتكالا عليه وتسليما له . ولعمري إن المسلمين لم يصلوا في تلك الشدة التي حملت عليها الآية إلى تلك النهاية التي قال فيها أولئك الرسل ما قالوا ، ولقد قتل بعض النبيين ضروبا من القتل حتى ورد أن منهم من نشر بالمنشار حيا ، وناهيك بأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار “. تفسير المنار . محمد رشيد رضا . 2 / 301
–التبشير بالنصر والعزة والتمكين – ( والله ليتمن هذا الأمر ) – ، بل وأقسم على ذلك تأكيدا لوعد الله ، فهذه سنته في خلقه ، فلا يضيع عمل وأجر من صبر واحتسب واستمر في البذل ولم يبخل أو يجبن ، وفي هذا رفع للمعنويات وشرح للصدور ، و إزالة لحجب اليأس وظلمات القنوط .
وقد كانت هذه عادة النبي الكريم مع صحابته الكرام ، ففي أصعب المواقف وأشدها حلكة وظلمة ، كان ينقلهم من واقعهم المرير إلى سعة فضاء المستقبل المشرق ، كما في غزوة الخندق – من أشد الوقعات على المسلمين – لما استعصت الصخرة فضربها النبي – ﷺ- فاندق ثلثها، وخرج منها شرارة ، فكبر النبي – ﷺ- وكبر أهل الخندق، ثم دقها ثانية فاندق ثلثها، ثم ثالثة وأخبرهم النبي – ﷺ – أنه في كل دقة رأى مرة قصور الشام، ومرة قصور فارس، ومرة قصور اليمن ، والقوم في واقع مرير حرج و صعب .
–عدم استعجال النصر والتمكين – ( ولكنكم تستعجِلون ) – ، واستبطاء العون الإلهي والمدد من السماء ، وإحالتهم للصبر والمصابرة قدر المستطاع ، فنفاد الصبر واستعجال النصر آفة الفئة المسلمة والمجتمعات المؤمنة عبر التاريخ ، وقد ذكرت الكثير من النصوص أن النصر لا يأتي إلا بعد وصول إلى مرحلة اليأس من الأسباب المادية والقوانين الطبيعية ، واستسلام كامل لله ولأمره .
” إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ، فتتلألأحتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم ، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين ” . في ظلال القرآن . 1 / 219