“معرفة نفسك هي بداية كل حكمة” تلك نصيحة الفيلسوف “أرسطو”، فالكثير من البشر يجهل نفسه، ولا يعرفها، ولا يبصر فيها مكامن القوة، ومناطق الضعف، كما أنه غافل عن رغباتها ومخاوفها، ومع صخب الحياة المعاصرة وكثرة الضوضاء يزداد هذا الجهل، لتقع الصدمة مع أول لقاء حقيقي وطويل بين الإنسان ونفسه، وصاغ الأديب اللبناني “مارون عبود” فجأة هذا اللقاء ببلاغة قائلا:” كثيرًا ما تخدعنا أنفسنا فنحسب أننا جبال راسخة، لا تأخذ منها العواصف والزوابع مقدار ذرة، وكثيرًا ما نتوهم أننا على الأعمال الجليلة قادرون، حتى إذا ما دقت ساعة العمل تدعونا ووقفنا أمامها وجهًا لوجه، رأينا أننا قد تضعضنا، وإذا بالذي كنا نخاله في حيز طاقتنا قد ابتعد عنا، إن مجابهة العظائم تتطلب أعصابًا، لا ترتجف ولا ترتخي، وكل من لم يتسلح برباطة الجأش، لا يستطيع أن يخاطب نفسه، حين يقف على شفير الهاوية”.
سؤال وجودي
الجهل بالنفس، يضع الإنسان على حافة الهاوية؛ بل يحرضه على القفز للمجهول، وأن يقابل حتفه المحتوم، والحقيقة أن معرفة النفس سؤال وجودي وفلسفي وحياتي، والصمت لن يعفي من ضغط الأسئلة ، لذا اهتم الدين بتلك القضية، وسلط أنواره في أعماق الإنسان بحثا عن النفس، لتحديد معالمها وحدودها وطاقاتها، فمعرفة النفس ليس معطا إنسانيا، ولكنها جهد وبحث واستكشاف ورحلة يبحرها الإنسان في داخله منذ ولادتها حتى نهايته، قد تمنحه البيئات التي يحيها فيها مفاتيح للمعرفة، وقد تغلق أمامه أبوابا للفهم، لكنها تبقى سؤالا كبيرا مقلقا، لذلك يُقال “معرفة الآخرين ذكاء، أما معرفة النفس فهي الحكمة”.
معرفة النفس هي نوع من الصحة كما يؤكد علم النفس، وقد يتعرض الجاهل بنفسه لأمراض الاكتئاب والقلق والتوتر، ومن الناحية الأخرى تتيح تلك المعرفة للإنسان قدرات أن يُنشيء مُستقبلات للمعلومات والأحداث بطريقة خاصة، فقد يشوه بعضها، أو يراها بطريقة مختلفة، حتى يحافظ على استقراره واتزانه النفسي، فربما نظر إلى تقلبات الحياة وأحزانها بطريقة تخفض من ألمها ووقعها على النفس، لذا كان حال المؤمنين النفسي عظيما في التفاعل مع تقلبات الحياة وأزماتها، قال تعالى: { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا} (التوبة :51) هذة الرؤية تحقق استقرار النفس وتنفي جزعها، وتتفهم خوفها، وتقابل هذا الخوف بطمأنينة الإيمان، وأن كل شيء مكتوب ومقدر، وهذه الرؤي والمسلك لا يتأتي إلا من خلال حوار ومعرفة بالنفس.
جزء من معرفة النفس تتعلق بفكرة النظر للمستقبل وموقع الإنسان فيه، فالإنسان إذا عرف نفسه سعى لوضعها في مكان يليق بها في أيامه المقبلة، وإذا كان جاهلا بنفسه، لم يخطط لمستقبله، وربما غالى في تقييمها دون أن تستتحق، أو بخسها قيمتها وحقها وبذلك يكون قد ظلمها في الحالتين، تشير دراسات علم النفس أن تلك المعرفة تتيح للإنسان تنظيم ذاته، فالإنسان في هذه الحالة يمتلك معلومات واضحة عن أهدافه، ولديه معايير يقيس من خلالها الأمور، ولديه إسراتيجية يتحرك وفق خطوطها العريضة، والتفاعل بينها يُنتج حركة أكثر وعيا بالنفس وإدراكا للواقع، وتتيح قدرا من التنبؤ حول دور الشخص وموقعه المستقبلي، ولذلك يُقال:”إذا كنت لا تعرف من أنت حقًا، فلن تعرف أبدًا ما تريده حقًا”، فالشخص الذي يضل الطريق يستغرق وقتا حتى يتأكد أنه تائه، وربما لا يصل لتلك الحقيقة إلا بعد أن تشكل العودة للطرق الصحيح عبئا كبيرا، لذا فمعرفة النفس أحد أشكال القوة الإنسانية، لذلك قال حكيم الصين ورجلها العسكري “صن تزو” المتوفى قبل خمسمائة عام قبل الميلاد:” اعرف نفسك وسوف تكسب كل المعارك.
الدين ومعرفة النفس
عرفت تعاليم البوذية طريقها لنفوس عدد من الغربيين في الوقت الحاضر، فتتيح لهم جلسات الصفاء النفسي، الوصول إلى أنفسهم والتعرف عليها والمصالحها معها، وتحقيق السلام الروحي والنفسي، تقول بعض تلك التعاليم “أن تعرف نفسك يعني أن تنسى نفسك”، فتفكيك الجدران حول النفس يكفل لها الانطلاق والخروج من تحيزاتها ومعتقداتها، رغم أن تلك الجلسات والتعاليم لا تقارن بما تطرحه الرؤية الإسلامية للتعرف على النفس ومدواتها والارتقاء بها، إلا أن هناك عوائق في التبليغ وفهم العصر تقف بين تعاليم الإسلام والوصول إلى الكثير من البشر.
ونشير هنا أن الرؤية الإسلامية سعت أن يعرف الإنسان نفسه، وجعلت معرفة النفس وتغييرها عاملا رئيسيا في استحقاق تلك الأمة للتغيير الرباني قال تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) ، وقال تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 53 ).
وكان أحد رواد التزكية والتربية وهو “الحارث المحاسبي” يوصى دوما بمحاسبة النفس ومراقبتها، وأن يكون العقل حافظا لها من الزيغ، وله كتاب مهم في هذا الجانب هو “آداب النفوس”، أما “أبو حامد الغزالي” فقد اهتم بأن يعرف الإنسان نفسه، ففي كتابه “كيمياء السعادة” يقول:” اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى معرفة النفس”، وفي كتابه “معارج القدس في مدارج معرفة النفس” فيرى أن فضائل النفس ورذائلها تنشأ من ثلاثة قوى في الإنسان، هي قوة التخيل، وقوة الشهوة ، وقوة الغضب.
ولعل ما جعل معرفة النفس وتهذيبها أحد المسائل الكبرى، فأهل التزكية يرون أن النفس الأمارة بالسوء أحد عوائق الارتقاء، وأن الانتصار على النفس بشهواتها أحد معارج الكمال الإنساني، ولا يتحقق الانتصار على النفس إلا من خلال معرفتها.
وقد لمس الدكتور “المسيري” في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” أزمة العلوم الغربية في مسألة معرفة النفس، عندما تساءل: هل يمكن تأسيس علوم إنسانية دون معرفة الانسان؟ مشيرا أن صورة الإنسان في تلك العلوم ترسم إنسانا ذا طبيعة واحدة يتحرك وفق إطار آلي من الدوافع والمثيرات.