بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان : روي عن عكرمة رحمه الله أنه قال في تفسير قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم} ( الدخان : 3-4) أن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان، يبرم فيها أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد (1) .

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم} ( الدخان : 3-4) يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر كما قال عز وجل: { إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر:1) ، وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185) .

من قال إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة (2) ، فإن نص القرآن في رمضان (3) ا. هـ.

فللعلماء في قوله تعالى: {في ليلة مباركة} قولان:

أحدهما: أنها ليلة القدر وهو قول الجمهور.

الثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة.

والراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن هذه الليلة المبارك هي ليلة القدر، لا ليلة النصف من شعبان، لأن الله سبحانه وتعالى أجملها في قوله: {في ليلة مباركة} . وبينها في سورة البقرة بقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وبقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (4) .

فدعوى أنها ليلة النصف من شعبان لاشك أنها دعوى باطلة، لمخالفتها النص القرآني الصريح، ولاشك أن كل ما خالف الحق فهو باطل، والأحاديث التي يوردها بعضهم في أنها من شعبان المخالفة لصريح القرآن لا أساس لها، ولا يصح سند شيء منها كما جزم به العربي وغير واحد من المحققين، فالعجب كل العجب من مسلم خالف نص القرآن الصريح بلا مستند من كتاب ولا سنة صحيحة (5) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (في معرض كلامه عن الأوقات الفاضلة التي قد يحدث فيها ما يعتقد أنه له فضيلة وتوابع ذلك، ما يصير منكرا ينهى عنه: ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روي في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة، وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة.

ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث إن الله يغفر لأكثر من عدد غنم كلب)) ، وقال لا فرق بينها وبين غيرها.

لكن الذي عليه أكثر أهل العلم، أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد، لتعدد الأحاديث الواردة فيها، وما يصدق ذلك من الآثار السلفية، وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن (6) وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر) (7) ا. هـ

وقال الحافظ ابن رجب: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادات، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة (8) ، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا ذلك كله بدعة.

واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان، لقمان بن عامر، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتمون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد: ليس ذلك ببدعة. نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.

والثاني: أنه قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى (9) . ا. هـ.

فالحاصل أن جمهور العلماء اتفقوا على كراهة الاجتماع في المساجد ليلة النصف من شعبان للصلاة والدعاء، فإحياء ليلة النصف من شعبان في المساجد على سبيل المداومة كل سنة، أو كل فترة بدعة محدثة في الدين.

وأما صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه في بيته، أو في جماعة خاصة فللعلماء فيه قولان:

الأول: أن ذلك بدعة وهو قول أكثر علماء الحجاز ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقل عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم (10) .

الثاني: أنه لا يكره صلاة الإنسان لنفسه في بيته، أو في جماعة خاصة، – في ليلة النصف من شعبان -.

وهو قول الأوزاعي، واختيار الحافظ ابن رجب، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

والذي يترجح عندي – والله أعلم – ما ذهب إليه أصحاب القول الأول – أن ذلك بدعة -.

ويمكن الجواب عن قول أصحاب الثاني – القول بعدم الكراهة – بعدة وجوه منها:

الوجه الأول: أنه ليس هناك دليل على فضل هذه الليلة، ولم يثبت- حسب اطلاعي المحدود- عن رسول الله أنه أحياها، ولا عن أحد من أصحابه- رضوان الله عليهم -، ولا عن التابعين- رحمة الله عليهم- عدا من اشتهر عنهم تفضيلها وأحياؤها وهم الثلاثة الذين ذكرهم ابن رجب – ولو فعلوه لاستشهد بفعلهم من فضلها وأحياها، وإنما هو أمر محدث بعدهم، فهو أمر مبتدع، وليس له أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

قال أبو شامة: (وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية – في كتاب ما جاء في شهر شعبان: قال أهل التعديل والتجريح: ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح) (11) . ا. هـ.

وذكر ابن رجب (أن قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيه شيء عن النبي ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام) (12) .

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (وقد ورد في فضلها -ليلة النصف من شعبان- أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، وأما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم) (13) . ا. هـ.

الوجه الثاني: أن الحافظ ابن رجب وهو الذي نقل تفضيل بعض التابعين لهذه الليلة (14) وإحياءهم لها في المساجد ذكر أن مستندهم في ذلك ما بلغهم من آثار إسرائيلية، ومتى كانت الآثار الإسرائيلية مستندا؟!.

وذكر أيضا أن الناس أخذوا عنهم فضلها وتعظيمها فمتى كان عمل التابعي حجة؟! .

الوجه الثالث: أن العلماء المعاصرين للقائلين بفضل ليلة النصف من شعبان قد أنكروا عليهم ذلك، ولو كان للمفضلين دليل لاحتجوا به على المنكرين عليهم، ولكن لم ينقل عنهم ذلك، لاسيما وأن من المنكرين عليهم عطاء بن أبي رباح الذي كانت إليه الفتيا في زمانه (15) . والذي قال فيه ابن عمر -رضي الله عنهما -: تجمعون لي المسائل وفيكم ابن أبي رباح.

الوجه الرابع: أن قوله : ((إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن)) (16).

ليس فيه دليل على تخصيص ليلة النصف من شعبان بفضل من دون الليالي الأخرى، لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (17) . فاطلاعه سبحانه وتعالى على خلقه، وغفرانه لهم، ليس متوقف على ليلة معينة في السنة، أو ليالي معدودة.

الوجه الخامس: أن من اختار القول بأنه لا يكره صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه، لم يدعم اختياره بالدليل، ولو كان هناك دليل لذكره، ومن أنكر ذلك استدل بعموم قوله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) وعموم الأحاديث والآثار الدالة على النهي عن البدع والتحذير منها.

قال الشيخ ابن باز-رحمه الله-: (وأما ما اختاره الأوزاعي -رحمه الله- من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف، لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعا لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفردا أو في جماعة، وسواء أسره أو أعلنه لعموم قوله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) . وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها) (18) . ا. هـ.

وقال أيضا بعد أن ذكر جملة من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم حول ما ورد في ليلة النصف من شعبان:

ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة – رضي الله عنهم -، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3) . وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : ((لا تختصموا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن تكون في صوم يصومه أحدكم)) (19) فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزا، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها، لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس (20) بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله .

فلما حذر النبي من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص، ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه على ذلك وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه، كما في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (21) فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي الأمة ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ورضي الله عن أصحاب رسول الله وأرضاهم، وقد عرفت آنفا من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله ولا عن أصحابه – رضي الله عنهم – شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في فضل ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة بدعة منكرة…. ا. هـ (22) . – والله أعلم – وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.