ما أجمل كلمة “أبشر” عندما تنزل على قلب ظمآن ينتظر الفرج ويتعلق بالأمل. وما أجمل تعاليم الإسلام حين نعلم أن الله تعالى كلف نبيه الكريم بمهمة التبشير بالخير، كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45-47].
إن البشارات النبوية لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت منهج حياة يغرس التفاؤل ويدفع إلى العمل الصالح.
بشارات نبوية في بداية الدعوة: أساس الملك والفلاح
رافق التبشير بالخير النبي ﷺ منذ بدأ دعوته فبشر من آمن بالله تعالى ربا بملك عريض وخير كثير حين قال لعشيرته الأقربين: “إنّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله حَظًّا ولا مِنَ الآخِرَةِ نَصِيبًا إلّا أنْ تَقُولُوا لا إلَهَ إلّا الله فَأشْهَد بِها لَكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ وتَدينَ لَكُمْ بها العَرَبُ وَتَذِلّ لكُمْ بها العجَمُ”[1].
ولما طاف ﷺ على القبائل يدعوهم إلى الله تعالى بشرهم بالفلاح في الدنيا والآخرة فقال: “يَا أيّهَا النّاس قُولُوا لا إلَهَ إلّا اللهُ تُفْلحُوا وَتَمْلِكُوا بهَا العَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمُ العَجَمُ وَإذا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا في الجَنّةِ”[2]
1. بشارة لأهل التوحيد: مفتاح الجنة
واستمر التبشير بالخير لمن وحد ربه بصدق ويقين ،«عن أنسٍ، أن النبي ﷺ قال لمعاذ: “اعْلَمْ أَنَّه مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنَّ محَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ”[3].» يبشر النبي ﷺ من عبّر لسانه عما في قلبه من توحيد وإيمان بالجنة.
2. بشارة للعاملين الصالحين: أبشروا بالثواب العظيم
يبشر النبي ﷺ من اجتهد في تحقيق العبودية لله تعالى بالثواب العظيم والأجر الجزيل قال صلوات الله وسلامه عليه: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ”. يبشر النبي ﷺ المجدين في أعمالهم الذين صدقت نواياهم واجتهدوا أن يسلكوا سبيل الهداية فمرة يميلون وأخرى يستقيمون ومرة يبلغ أحدهم هدفه وأخرى تقصر به همته لكنه في كل حال صادق؛ أحيانا يغلب نفسه وأحيانا تغلبه. ومع حرصهم على الطاعة حرصوا على تحقيق مبدأ الاستدامة هؤلاء لهم من الله تعالى أجر عظيم وثواب كبير لم يعينه النبي ﷺ لكونه فوق الوصف.
3. بشارة في الأزمات: نور يشرق في الظلمات
وتأتي أهمية البشارة في أوقات الضيق والشدة والعسر حين تظلم الأجواء ويشتد الكرب هنا تشرق أنوار البشارة لكي تقدم للنفس مددا روحيا وطاقة إيجابية وقدرة على العمل وبذل المزيد من الجهد ، شكى الصحابة رضوان الله عليهم إلى النبي ﷺ ما يجدون من الأذى والكرب فبشرهم النبي ﷺ بذهاب الخوف وحضور الأمن، قال ﷺ “وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”[4]
4. بشارة لأهل الحكمة وأولي الألباب
من أجلّ نعم الله تعالى على العبد نعمة الحكمة التي يميز بها بين الطيب والخبيث وبين الحسن والأحسن وهؤلاء لهم البشرى ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17-18] “أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ نَقْدٍ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَوْهَامِ نُظَّارٌ فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ”[5] إنهم يسمعون كلاما كثيرا فيه الحق وفيه الباطل وفي الحق حسن وأحسن ويختارون من كل ذلك أحسن الأقوال،فإذا اختاروها عملوا بها.
بعض الناس يسأل عن حكم الله تعالى في مسألة من مسائل الحياة ولا يختار من الأقوال التي يسمعها إلا ما يوافق هواه ، بعض الناس يطلب رأيا في قضية معينة فلا يسمع من الآراء إلا ما يرضيه ، عباد الله الذين يبشرهم ربنا يستمعون بمنتهى التركيز والتفكير ويطلبون من الله أن يهديهم إلى الحق فإذا وصلوا سلموا له بقلوبهم وانقادت له جوارحهم.
5. بشارة للمرضى وأهل البلاء: تكفير الخطايا
الابتلاء بالمرض ثقيل على النفس إذ يشعر المريض بالعجز والحاجة للآخرين، وهدي النبي ﷺ في التعامل مع الابتلاءات المتعددة؛ التبشير بقرب فرج الله تعالى فما أسرع مرور الأيام والليالي ، والتبشير بالأجر لمن رضي وصبر وسعى للخروج من الابتلاء ،عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ قَالَتْ: “عَادَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنَا مَرِيضَةٌ فَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.”[6]
6. بشارة للأمة الإسلامية: النصر والتمكين
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ “[7]. تتعرض الأمة للبأساء والضراء ويصيبها الضعف والوهن لكن تعافيها قريب وطريقه مرسوم في الكتاب والسنة وما إن تتلقى ضربة حتى تستيقظ فيها منابع القوة والمنعة وما إن يموت فيها من يدلها على الخير ويعينها عليه حتى يبعث الله تعالى له خلفا يكمل المسيرة.
“بشروا ولا تنفروا”: منهج نبوي في الدعوة
كان النبي ﷺ يحب التبشير بالخير ويأمر به أصحابه إذا أرسلهم في مهمة ويقول لهم: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)[8].”الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير،و فِيهِ تَأْلِيفُ مَنْ قَرُبَ إِسْلَامُهُ وَتَرْكُ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ مِنَ الصِّبْيَانِ وَمَنْ بَلَغَ وَمَنْ تَابَ مِنَ الْمَعَاصِي كُلُّهُمْ يُتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُدَرَّجُونَ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا”[9]
يقين الصحابة في صدق البشارات النبوية
امتلأت قلوب الصحابة رضوان الله عليهم بالثقة في البشارات النبوية ، فعندما دعا النبي – ﷺ – عدي بن حاتم إلى الإسلام بشره بخير عظيم، قال له: “يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنِّي قَدْ أَظُنُّ- أَوْ قَدْ أَرَى، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة تراها من حولي، وَتُوشِكُ الظَّعِينَةُ أَنْ تَرْحَلَ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ جِوَارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْنَا كُنُوزُ كسرى بن هرمز، وَلَيَفِيضَنَّ الْمَالُ -أَوْ لَيَفِيضُ- حَتَّى يُهِمّ[10] الرَّجُلَ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ مَالَهُ صَدَقَةً”، قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنَ الحيرة بغير جِوَارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ خَيْلٍ أَغَارَتْ عَلَى الْمَدَائِنِ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتَجِيئَنَّ الثَّالِثَةُ، إِنَّهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لي» [11].
هذا القسم على تحقق البشارة النبوية – التي لم يأت أوانها بعد – نابع من ثقة عميقة في أقواله – ﷺ – مهما بدت هذه البشارات مستحيلة أو بعيدة المنال، وهذه الثقة لم تأت من فراغ بل سبقها فكر دقيق وتأمل كبير في الوحي الإلهي ومصداقيته.
البشارة وحسن الظن بالله: مفتاح العمل والأمل
لا يستبشر إلا أصحاب اليقين الذين عرفوا ربهم من خلال تلاوة كتابه الكريم والاطلاع على سنة نبيه ﷺ والتأمل في سير التاريخ الإنساني. لا يستبشر إلا من أيقن أن الخير كله بيد الله تعالى وأن البشر مهما عظمت قوتهم لا يملكون لأنفسهم منعا ولا عطاءا ، بل هم فقراء إلى ربهم فقرا يدركه المؤمنون في كل وقت ولا يدركه غيرهم إلا ساعة الشدة والعسر.
هذا قليل من كثير من البشارات النبوية ، وكلما طالعنا السنة النبوية وجدنا بشارات عديدة كلها تملأ قلب المؤمن بالرجاء في مستقبل أفضل وتنعش روحه بحسن الظن بالله تعالى وتدفعه إلى العمل وكله ثقة أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. بمثل هذا تنتقل البشارة من وعود وردية وأوهام تملأ الأذهان لكي تتحمل الأزمات وتتعايش معها حتى يصعب عليها تخيل الخروج منها إلى حقائق يقينية دافعة لوصل الليل بالنهار بالعمل الجاد المخلص والتعاون على البر والتقوى وإدراك الواقع واستشراف المستقبل.
إننا بحاجة إلى البشارات الصادقة لكي نستطيع تحمل أعباء الحياة ولكي نتجاوز الأزمات التي تطحننا بأنيابها وتقضي على كل أمل في غد أفضل،لا يزال المؤمنون مهما مرت بهم من محن وتعرضوا لمصاعب وقصروا في الطاعات والعبادات مع صدق نياتهم وعظيم رجائهم في ربهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.