كلام كثير يملأ الكتب عن الأمومة، وعن فضل الأم، وعن جزاء الجنة التي تحت أقدامها، وعن مكانتها وأحقيتها بحسن الصحبة، ولكن ماذا عن الأبوة؟ ماذا عن ما يقال عن قسوة الأب و “أغلال” الوالد، وعن نظراته الحادة حتى في حالات الوداع، هل كل الآباء على نفس الشكل، هل كلهم من ذاك الزمان الذي يرى أصحابه أن القسوة هي الطريقة الوحيدة لصنع الرجال!.
لقد تفرغت جيوش من الباحثين والأطباء النفسيين وعلماء النفس والاجتماع لدراسة الأمومة في ثقافتنا المحلية، دينية كانت أو إجتماعية، ليتحول الأمر فيما بعد إلى بحوث عن المرأة وليس الأم، المرأة العصرية والعاملة والمتغيرة شكلا ومضمونا.. حتى شهدنا ما أصبح يتآكل ويندثر من قيم وأنماط سلوك اجتماعي، وعادات وتقاليد وأصول، وهياكل أنسجة وأنظمة حية تتشابك فيها العلاقات مع المفاهيم، ولكن على نحو مختلف عما بداخلنا من ثقافات وأخلاق وتعاليم دينية ودنيوية، أمام ما يحتاجنا الخارج أن نكون عليه، مسخا باسم التحديث أو التطوير أو العصرنة كما يسمونها نسبة على العصر والمعاصرة.
أبوة أم قوامة؟
ولأن هذا كله هو “نحن” فلا نلبث أن نلتقط نظرة حانية أفلتت من والد لحظة فراق، أو نظرة فرحة مستترة من أب جعلته يطمئن على مستقبل ولده الذي بدأ يسير في مدارج الرجولة!!.
هذا العالم يقوم على كفتي ميزان، أمومة في كفة وأبوة في كفة، ومهما تلاطمت المعاني كما الأمواج، ما ننفك نتذكر “قسوة” الأب، ضربه وتأديبه، غضبه وصراخه، الذي يتوقف ويتراجع تدريجيا مع الزمن والكبر، وحتى كلماته القوية والقاسية أحيانا تستوقفنا، فنبحثت عن آثارها في نفوسنا، وفي تصرفاتنا، ليظهر في الأخير وكأن الأب هو المتضرر الأكبر من هذه القسوة السابقة، قسوة لا ينتبه إليها أحد، إلا أن الإبن يعيد إنتاجها مع أبناءه، ولكن بمنطقه هو الخاص.
يتحدثون عن القوامة، فيكتشفون أن القوامة هي ترسانة من الواجبات والمسئوليات المدرجة تحت بند الأبوة. قد يكون هذا الاتجاه رد فعل لمن يرون القوامة محض سيادة أو تسلطا أو امتيازا للرجل، أي رجل، دائما وأبدا، وبمجرد أنه ولد رجلا، على أية امرأة.
ولكن إذا كانت “القوامة” هكذا، فكيف بالأبوة؟!.فلنطلق العناية للخيال والذاكرة لعلها تلتقط شيئا علق بها يشير بالتحديد إلى دور الأب منفردا في الأسرة أو التربية. هل دور الأب هكذا إشرافي واستشاري ومحدود في مقابل دور الأم في التربية، ومقابل الجزاء الموفور لها؟!. أم أن هذا الجزاء يتعلق بالأم.. الوضع، ووهن الإرضاع وما شابه، كما يشيع عندنا؟!.
ورطة الأبوة
وهل القسوة في جزء منها هي وليدة شعور الأبوة (الرجل، الأب) بالغبن أو الظلم حين يجد الرجل نفسه في ورطة “القوامة” ثم هو دائر كالثور المنهك في ساقية توفير مستلزمات الأسرة ثم هو بعد ذلك ينبغي أن يكون حانيا، لينا، مصغيا، محتضنا؟!.
وفيما عدا أمه هل يتاح للرجل مصدر دائم وأمن للحنان والاحتواء والرعاية؟! أم أنه حين صار قواما ما زالت على رقبته مقصلة المسئوليات والصلاحيات، وأحيانا مسئوليات أكثر وأكثر، والحنان مشروط، والأمان منقطع، والرعاية تذهب للأولاد غالبا، ثم يقف هو في العراء أمام ولده أو العالم ينظرون إليه في تعجب وأحيانا كراهية ولسان مقالهم أو حالهم يصرخ: يا قاس!! وفي غياب أية معرفة، ودعك هنا الآن من الحنان والرعاية.
في غياب أية خطوط هادية لما ينبغي أن تكون الأبوة ماذا سيحدث وكيف سيتصرف الأب العادي الطبيعي غير أن يعيد إنتاج ما تربى عليه من قسوة!!! في غياب الاحتضان للرجل (الأب)، وفي غياب المعرفة والتدريب والممارسة المختلفة ماذا لدينا وماذا نتوقع غير القسوة؟! وبخاصة في ظل ضغوط العيش والحياة المتصاعدة بسرعة.
الأبوة نماذج
لدينا الأب الغائب بالسفر أو الموت أو الانسحاب، أو الأب الباهت في حضور هو أقرب إلى العدم، ووجود يضر أكثر مما ينفع لا بقسوته، ولكن بمسالك أخرى منحرفة أو إجرامية.
أما الأب الغائب فقد أصبح “موضة”، والضحايا بالملايين، وهو غائب هروبا من المسئوليات، من ترسانة الواجبات الخاصة “بالقوامة إياها”،ربما ذلك، وربما غيره!!.
هارب من صراخ ناشطات جمعيات حقوق المرأة اللائي يصرخن كلما تحرك تجاه زوجته متفاعلا باقتراب أو ابتعاد، فهو في الاقتراب “خانق” طبقا لتصوراتهن، وفي الابتعاد “هاجر”، وهو “خانق” أو “هاجر” لأنه شرير بالطبيعة والخلقة، أليس رجلا ويتمتع بالأبوة؟؟!!.
وظروفنا العامة والخاصة كما تكفل لنا إنتاج هذا النمط من الرجال قساة القلوب، غلاظ الأكباد بتخلف التوجيه والتربية، أو تشوه النماذج والأدوار، أو التطبيق المنحرف للدين، أو الفهم المعوج للإنسان وللأسرة، أيضا ظروفنا صارت تنتج نمطا آخر من مسوخ لا هي آباء ولا رجال، ولا حتى كائنات بشرية سوية، إنما عبوة من ميوعة ولا مسئولية ولا حدود ولا قيود ولا ثوابت ولا قيم، ثم هؤلاء يتزوجون ويصبحون آباء بيولوجيين تشقى بهم الدنيا، وهم لا يبالون وربما لا يدركون أنهم كذلك!!.
متى يعود راعي البستان؟
وفي نقاش بإحدى الندوات، طرحت بعض الأخوات عنوانا لملف متى يعود راعي البستان؟ “ويقصدن الرجل، الزوج، الأب” وكان النقاش إن عودة الرجل مطلوبة مثل عودة المرأة، والغائب الحقيقي هو التربية السليمة بكل منظومتها، فهل الأب الحاضر قسوة أفضل أم الغائب انسحابا أو هروبا؟!.
ليست هذه قصة أو قصيدة في مديح القسوة، ولكنها محاولة لفهمها، ومقارنتها بنقيضها الذي ينتشر بيننا، وتبقى ملاحظتان:
الأولى: عن الظاهر والباطن في سلوك الوالد تجاه أبناءه، وبشأن القسوة الظاهرة، والحنان الباطن، لأن هذا يفتح نقاشا طويلا حول الظاهر والباطن في حياتنا الرسمية.
الثانية: أن جهدا ينبغي أن ينصرف إلى توليد، وربما تجميع، ما يتعلق بنهج الرسول (القدوة) ﷺ، فهو الأب كما ينبغي أن يكون، وأخبار أبوته متناثرة هنا وهناك، بينما عامة كتب فقه السيرة، تتناول غزواته وحروبه!! ﷺ، وكأنه لم يكن غير رجل محارب مقاتل، ولا عذر بالتالي لمن يظنون أن هذا هو النشاط المهم، وربما الوحيد، في حياة المسلم كما ينبغي، وكيف لا وكتب السيرة المتاحة أو الشائعة تتحدث أساسا عن المغازي والفتوح!!.
ولا ينفي هذا جهودا أخرى نظرت سابقا أو ينبغي أن تنظر هنا وهناك لعلنا نجد بديلا عن القسوة غير الغياب!!. ومع ذلك نقول ما أصعب الأبوة!! وما أصعب دور الأب!! ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
د.أحمد عبد الله5>