في سن اليفاع، وفي ظروف استثنائية على نحو ما، قرأت “البداية والنهاية” لابن كثير رحمه الله، كانت هناك أمورٌ تجعل من شروع فتى يافع في قراءة هذا السفر الكبير شيئاً مفهوماً ومعقولاً. وعلى امتداد صفحات الكتاب الضخم جاء ذكر الكثير من المدن، بإسهاب حيناً، وبإجمال أحياناً، ولم يتعلق قلبي من وراء كتاب البداية النهاية إلا بمدينتين اثنتين بغداد، ودمشق.

 

ولأجعل الحديث هذه المرة عن بغداد! المدينة التي اخترعت اختراعاً على نسق إبداعي جميل، ولا يزال لها في وجداني سحرٌ غير عادي، على أني لم أرها بعدُ، وعلى أني أحسب أن بغداد الحالية ليست بغداد التي تصورها ذهني وأنا بعد فتى يافع..

عشت مع بغداد قبل أن تبنى، بتُّ رفقة أبي جعفر المنصور في موضع المدينة؛ فرأيت الرياح تغدو عليها وتروح، ونظرت إلى ملامح أبي جعفر وهو يتبسم إذ يرى الريح تهب صافية لا تثير غبار الأرض، ولا تركد فيشكو المرء حراً أو ضيقاً..

ثم أصبحت وتجولت برفقة الخليفة في تلك البقعة؛ فوجدتُه ينظر إلى المدينة نظرة القائد الحربي؛ فيجدها محصنةً بدجلة والفرات، ورأيت الخليفة وهو يلقي الأوامر باختطاط المدينة على الأرض ذاتها بالرماد؛ ثم رأيت المساحين وهم يرسمون المدينة، ثم تجولت مع المنصور في تلك الشوارع المتخيلة، وخضنا تلك الأزقة المتصوّرة، ثم تخيلتُ حال المدينة بعدما شرعوا في بنائها، وقد قسمت على أربعة من مدراء المشاريع، كل واحد منهم يشرف على جيش من المهندسين والشغّيلة، ورأيت الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان يقوم بمهمة المفتش العام على مشروع البناء بأمر من الخليفة، بعدما أبى أن يتولى قضاء المدينة الوليدة التي ستصبح عما قريب عاصمة الدولة وإحدى أشهر مدن الدنيا..

راعني أنها كانت مدينة مدورة، لها سوران: جواني وبراني، وفي كل سور ثمانية أبواب، كل واحد منها لا يواجه الآخر مباشرة، بل يزورّ عنه، وأعجبني أن مركز المدينة احتوى دار الحكم، وإلى جانبها الجامع الكبير.. كما وجدت أن المدينة كانت تصحح أخطاءها التخطيطية، وأن الطبعة الأولى منها شابتها عيوبٌ استدعت تدخلات جراحية عدة؛ فقد كان صخب السوق يصل إلى مسامع الخليفة في دار الحكم؛ فأمر بنقل السوق إلى مكان آخر، وضاقت الأسواق بروادها فأمر الخليفة بتوسعتها، وضاقت الطرق فأمر الخليفة بتوسعة الطرق الرئيسية ليبلغ عرض الواحد منها أربعين ذراعاً.

ولم يمض الكثير من الوقت قبل أن أتعرف إلى رجل آخر.. هو الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، الذي سجل في كتابه “بغداد.. ذكريات ومشاهد” توثيقاً بليغاً رائقاً، صوّر لي كيف اتسعت المدينة، وفاضت عن السور حتى بلغت الشاطئ المقابل من دجلة؛ فصارت مدينة ذات شقين: الكرخ والرصافة، ملأى بالمعالم، والقصور، والأسواق، والمحلات ذات الطابع المتخصص، ورسم في صفحات قليلةٍ صوراً تاريخية للمدينة، في لحظات مختلفة من عمرها المديد، بين صعود وهبوط، ثم أخذ يتحدث عن بغداد التي عرفها ورآها، وعمل بها بعض الوقت، وإذا هو يمزج الماضي بالتاريخ، ويخلط الوقائع بالزفرات والآهات، ينظر إلى جامع بغداد الكبير فإذا هو مختطف، قد نهب الناس أرضه، و”ابتلعته الدور فلم يبق منه إلا منارته تنادي لو وجدت سميعاً”.

الشيخ علي الطنطاوي

 

أما المدرسة النظامية التي تخرج فيها أبو حامد الغزالي؛ فلم يبق منها سوى منارة مهدمةٍ طولها أربعة أمتار.. في زقاق بجوار جامع مرجان.

وعشت مع الطنطاوي رعباً فظيعاً وهو يصف الخوف الذي عاشه أهل بغداد حين قيل إن نهر دجلة قد يفيض على المدينة فيغرقها ويهلك الحرث والنسل، وكيف تحول الاحتمال إلى حقيقة؛ فانطلق النهر مثل وحش منفلت من عقاله؛ يقتلع الأشجار ويهدم الدور، ويترك وراءه خراباً، ومرت بالناس ليلةٌ صعبة، ولكن الليل لم ينحسر حتى انحسر معه السيل، وأشرق الصبح على مدينة عانت، ولكنها ظفرت في حرب صعبة..

وتجولت مع الطنطاوي في شارع الرشيد، والباب المعظم، ومنعطف الصليخ، والقبور الملكية في الكاظمية، وراقبته وهو ينظم مظاهرة لطلاب الثانويات البغدادية نصرة للشام ضد الاستخراب الفرنسي، وركبت معه الحافلة في يوم من أيام رمضان، وإذا هو يتأفف من كثرة المدخنين المجاهرين بالفطر في نهار رمضان، ويدعو العلماء إلى القيام بشعيرة الزمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما الصورة الأحدث من بغداد، التي رسمتها لي الأقلام؛ فقد كانت بقلم جبرا إبراهيم جبرا، رحمه الله، الأديب والرسام الفلسطيني النصراني الذي أشهر في بغداد إسلامه، وتزوج بها امرأته.. وسطر قدراً من أيامه في بغداد في كتابه “شارع الأميرات” وهو الشارع الشهير في غرب بغداد، الذي عاش جبرا بالقرب منه، وتجول في أرجائه كثيراً مع بعض رفاقه..

الأديب جبرا إبراهيم جبرا

كان جبرا في مطلع أمره مدرساً في “الكلية التوجيهية” وواحداً من مشرفي السكن الداخلي للطلاب المتفوقين المهيئين للابتعاث في الخارج، وفي تلك الفترة، تعرف إلى إغاثا كريستي، التي كان زوجها ماكس ملوان عالم آثار يعمل في العراق، (في فترة ما: كنتُ أعب قدر ما أستطيع من روايات إغاثا كريستس البوليسية! وعلى الرغم من أنها كتبت أكثر من رواية تدور أحداثها في بغداد؛ لم يكن بوسعها أن تحلّي المدينة أو تجملها في عيني ولا أن تضفي عليها أي رونق، ما السبب؟ لا أدري).

أفلح جبرا في صنع رونق خاص بشارع الأميرات، يجعلني أتمنى أحياناً أن تتاح لي الفرصة للمشي في ذلك الشارع كما مشى فيه جبرا، إنه شارع لا يتجاوز طوله الكيلومتر، ولكنه عريض، مشجر بالنخل ولون من الشجر الهندي الطارد للبعوض، وهو شارع هادئ هدوء الريف، في أحد أطرافه حديقة كثيفة الشجر واسعة ذات بوابتين، تجذب الكبار والصغار.

في شارع الأميرات تجول جبرا، وبالقرب منه سكن، وعاش، وعمل، وتنزه برفقة عائلته، وكتب مقداراً من مؤلفاته. لذلك يشكل هذا الشارع جزءاً عزيزاً علي من بغداد التي في وجداني، والتي لم أرها إلا بنظارات من ورق، ولم أمش فيها إلا من خلال عربات من كتب.

ومن خلال بغداد التي عرضت لي في صفحات الكتب، أعيش ورطة بين بغداد واقعية أحب أن أراها ولكن لا أحسب ذلك يحدث، وأهم أن آسف لهذا، لولا أني أسعد بأني بعيد عن رؤية بغداد الواقعية، وهو ما يجعلني أحظى بوقت طويلٍ مع بغداد “المتخيلة” الرائعة: بغداد أبي جعفر، وبغداد الطنطاوي، وبغداد جبرا…!