مما تقد ذكره من علم آدم وعلوم الأنبياء عليهم السلام، وثناء الله تعالى عليهم بالعلم والفهم والحكمة، نقول هذا كله توطئة للدخول في بيان فضل الله على النبي ﷺ بالعلوم التي لم ينلها غيره من الأنبياء عليهم السلام – وهم من هم في علو القدر والمنزلة – فنقول ومن الله نرجو العون والقبول:
وأما علم النبي ﷺ، فقد كان أعظم من علوم جميع الأنبياء السابقين؛ لأن الله تعالى أطنب في الثناء عليه بالعلم في آيات كثيرة؛ كما بين ذلك النبي ﷺ في أحاديث، ولكيلا أطيل اكتفيت بذكر آيتين، وستة أحاديث، إليك بيانها:
1- أما من القرآن الكريم، فقوله تعالى: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } [النساء: 113].
- قال السعدي رحمه الله تعالى: ذكر نعمته عليه بالعلم، فقال: ﴿ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ﴾؛ أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء، وعلم الأولين والآخرين، والحكمة؛ إما السنة التي قد قال فيها بعض السلف: إن السنة تنزل عليه كما ينزل القرآن، وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها، وترتيب كل شيء بحسبه، قوله تعالى: ﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾، وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى، فإنه ﷺ كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: ﴿ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ [الشورى: 52]، ﴿ ووجدك ضالا فهدى ﴾ [الضحى: 7]، ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله، حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾، ففضله على الرسول محمد ﷺ أعظم من فضله على كل مخلوق، وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها.
وقال الآلوسي: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة؛ أي: القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد بالحكمة السنة؛ أي: وعلمك بأنواع الوحي ما لم تكن تعلم؛ أي: الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدنيا وأحكام الشرع؛ كما روي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أو من الخير والشر – كما قال الضحاك – أو من أخبار الأولين والآخرين – كما قيل – أو من جميع ما ذكر كما يقال.
ومن الناس من فسر الموصول – ما – بأسرار الكتاب والحكمة؛ أي: إنه سبحانه أنزل عليك ذلك، وأطلعك على أسراره، وأوقفك على حقائقه، فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى.
وأما قوله تعالى: ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾، فهذا لا تحويه عبارة، ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة، والرياسة التامة، والشفاعة العظمى يوم القيامة.
2 – قوله تعالى: ﴿ علمه شديد القوى ﴾ [النجم: 5]:
في هذه الآية الكريمة بيان لفضل علم النبي صلى الله عيه وسلم، وذلك من خلال الثناء على علمه وهو الوحي، والثناء على معلمه وهو جبريل عليه السلام بقوله: ﴿ علمه شديد القوى ﴾.
قال الفخر الرازي رحمه الله تعالى: وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في (علمه) عائد إلى الوحي؛ أي: الوحي علمه شديد القوى، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر، وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى: ﴿ نزل به الروح الأمين ﴾ [الشعراء: 193]، والأولى أن يقال: الضمير عائد إلى محمد ﷺ، تقديره علم محمدا صلى الله عيه وسلم شديد القوى جبريل، وحينئذ يكون عائدا إلى صاحبكم، تقديره: علم صاحبكم، وشديد القوى هو جبريل؛ أي: قواه العلمية والعملية كلها شديدة، فيعلم ويعمل، وقوله (شديد القوى)) فيه فوائد:
الأولى: أن مدح المعلم مدح المتعلم، فلو قال علمه جبريل ولم يصفه، ما كان يحصل للنبي ﷺ فضيلة ظاهرة.
الثانية: أن فيه ردا عليهم؛ حيث قالوا أساطير الأولين، سمعها وقت سفره إلى الشام، فقال: لم يعلمه أحد من الناس، بل معلمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا، وما أوتي من العلم إلا قليلا.
الثالثة: فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام، فقوله تعالى: ﴿ علمه شديد القوى ﴾، جمع ما يوجب الوثوق؛ لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل؛ لأنا إن ظننا بواحد فساد ذهن، ثم نقل إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة، لا نثق بقوله، ونقول: هو ما فهم ما قال، وكذلك قوة الحفظ؛ حتى لا نقول: أدركها لكن نسيها، وكذلك قوة الأمانة؛ حتى لا نقول حرفها وغيرها، فقال: ﴿ شديد القوى ﴾؛ ليجمع هذه الشرائط، فيصير كقوله تعالى: ﴿ ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين ﴾ [التكوير: 20، 21].
والأدلة في القرآن على سعة علمه ﷺ كثيرة، ونجمل القول فيها بما قال العلامة عبد الله سراج الدين بقوله: (هذا القرآن الذي أقرأه الله إياه، وجمعه له في صدره، وعلمه إياه، وبينه له، قال الله عز وجل في سورة القيامة: ﴿ إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ﴾ [القيامة: 17 – 19]، ومعناها: (إن علينا) أن نجمع لك هذا القرآن في صدرك، وعلينا إثبات قراءته في لسانك، ثم نتكفل لك ببيانه.
ثم إن هذا القرآن فيه كل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [الأنعام: 38]، وكما قال الله تعالى: ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾ [النحل: 89]، فهو وإن كان قليلا في حجمه وعدد أوراقه، ولكن من إعجاز الله عز وجل في قرآنه أنه في أوراقه القليلة يجمع العلوم والفنون؛ قال الله عز وجل: ﴿ رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ﴾ [البينة: 2]، وإليه يشير قوله تعالى: ﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ﴾ [لقمان: 27، 28]؛ ا هـ[1].
وأما السنة، فقد وردت أحاديث كثيرة في بيان علم النبي ﷺ؛ منها:
1 – عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرسول ﷺ قال: (أتاني الليلة ربي – تبارك وتعالى – في أحسن صورة – قال: أحسبه قال: في المنام – فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: صدقت، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون))؛ الحديث في سنن الترمذي، ومسند أحمد.
وموضع الشاهد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فعلمت ما في السماوات وما في الأرض)، وفي رواية: (فتجلى لي كل شيء، وعرفت).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في شرحه: (وفيه دلالة على شرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتفضيله بتعليمه ما في السماوات والأرض، وتجلى ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك؛ كما أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، وقد ورد في غير حديث مرفوعا وموقوفا أنه أعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها، وهي المذكورة في قوله عز وجل: ﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ [لقمان: 34])[2].
2 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أوتيت مفاتيح كل شيء الا الخمس، إن الله عنده علم الساعة.. الآية)؛ رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.
3 – وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاما، ما ترك فيه شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وإنه ليكون منه الشيء قد كنت نسيته، فأراه فاذكره؛ كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه).
قال العلامة المحدث السيد عبدالله الغماري رحمه الله تعالى: قوله: (أوتيت مفاتيح كل شيء)؛ أي: من العلوم والمعارف وسائر المغيبات، قال القاضي عياض في الشفا في فصل ما اطلع عليه من الغيوب وما يكون، ما نصه: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزف غمره، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر؛ لكثرة رواتها واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب؛ ا هـ، ثم أورد جملة منها فليراجع[3].
4 – وعن أسماء رضي الله عنها قالت أتيت عائشة وهي تصلي فقلت: ما شأن الناس، فأشارت إلى السماء فإذا الناس قيام، فقالت: سبحان الله، قلت: آية، فأشارت برأسها أي نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي، فجعلت أصب على رأسي الماء، فحمد الله عز وجل النبي صلى اللهم عليه وسلم وأثنى عليه ثم، قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي، حتى الجنة والنار، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم)[4].
ثم تابع الغماري حديث: قوله: (إلا الخمس: إن الله عنده علم الساعة) الآية, وفي صحيح البخاري عن ابن عمر مرفوعا: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام الا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة الا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله)، ومقتضى هذا أنه لم يكن ﷺ يعلم تلك الخمس، وإليه ذهب الجمهور، لكن قال الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى: (ذهب بعضهم الى أنه ﷺ أوتي علم الخمس أيضا، وعلم وقت الساعة والروح، وأنه أمر بكتم ذلك)؛ اهـ، وبه جزم كثير من المتأخرين)؛ ا هـ[5].
5 – وقال أبو ذر: (لقد تركنا رسول الله ﷺ، وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما)[6].
6 – وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي الله ﷺ قال: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)؛ رواه البخاري.
قال ابن رجب: (وكونه أعلمهم بالله يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله، وإنما زاد علمه بالله لمعنيين:
أحدهما: زيادة معرفة بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه، وما يستحقه من الإجلال والإعظام.
الثاني: إن علمه بالله تعالى مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه – أي الله – إما بعين بصره أو بصيرته؛ كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين، وعلم الصحابة بالله مستند إلى علم اليقين، وبين المرتبتين تباين، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى)[7]؛ ا.هـ.
