العِينة هي الأساس والمنطلق لمقاربة التمويل الإسلامي بالتمويل الربوي، فإذا كان التمويل الربوي يعتمد على إقراض النقود بالفائدة دون مواربة، وكان التمويل الإسلامي يعتمد على النشاط الاقتصادي، فإن العِينة من شأنها أن تُقرِّب التمويل الإسلامي إلى التمويل الربوي، بأن تُبعده خارج دائرة النشاط الاقتصادي، مع وجود سلعة غير مقصودة تتوسط هذا التمويل استبقاء على بعض من الفوارق بين التمويلين.
ومع ظهور ضعف هذا الفارق في العِينة الثنائية، بدأ التفكير في صور أخرى، يبدو معها الفارق أكثر ظهورا كالتورق.
العينة هندسة مالية في الطريق الخطأ
والربا هو أيسر الطرق وأقلها كلفة للحصول على النقد مقابل زيادة في الذمة؛ لأنه لا يخلق وسطاء طفيليين، فالعلاقة فيه تنحصر بين الدائن والمدين، أي بين آكل الربا ومؤكله، ويليله في هذا اليسر والسهولة بيع العينة، فحسب العميل الذي يريد تمويلا أن يذهب إلى البنك، فيبيع البنك له الطاولة التي يجلس حولها العملاء، بيعا مؤجلا بعشرة آلاف، ثم يشتريها منه بيعا عاجلا بتسعة آلاف، فيخرج العميل حاملا التمويل الذي أراد، ويحصل البنك على الربح الذي يبغي، والطاولة مكانها تنتظر مئات العمليات الأخرى لعملاء آخرين!
فلو أجازت الشريعة بيع العينة لما كان هناك حاجة إلى بقية عقود التمويل النقدي، ولو شرعت الشريعة هذه العقود الأخرى إلى جوار العينة لما راجت هذه العقود في السوق المصرفي رواج العينة؛ بدليل أن البنوك التقليدية إلى اليوم لم تستحدث عقدا تمويليا آخر إلى جوار عقد القرض بالفائدة، فهو عندها العقد العملاق الذي يلبي جميع احتياجات طالبي التمويل أيا كان غرضهم من التمويل، كما يلبي حاجة البنوك التقليدية من ضمان مبلغ القرض مع فائدتها التي يشترطها على المقترضين.
لكننا وجدنا الشريعة الإسلامية شرعت وأباحت عددا من عقود التمويل المتنوعة (المضاربة، المشاركة، السلم، الاستصناع، الإجارة، المزارعة، المساقاة…..).
والمقصود أن بيع العينة يحقق المرونة التمويلية، لكنه حرام شرعًا، وليس معنى أنه يحقق المرونة التمويلية أننا نتأسف على تحريمه، ففرق بين المرونة التمويلية، وبين خلو هذه المرونة من المضار، فليس أمرن تمويليا من عقد الربا المحض بين الدائنين، وسيأتي ما يسببه الربا من مضار وويلات على المجتمع كله، وليس على المترابيين فحسب!
ابن تيمية يتنبأ بالمنتج الماليزي!
وقد تنبأ شيخ الإسلام ابن تيمية بأن بيع العينة سيقتضي انهيار مجموعة من القيم الحاكمة في التمويل الإسلامي؛ فقد قال – رحمه الله-: ” فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدة ولا حقيقة. بل يبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حكم ما شرطت له والمنع من شيء آخر وهو إنما قصده ذاك لا الآخر ولا ما شرطت له”.
وها هو الواقع يثبت ما تنبأ به ابن تيمية، فالبنوك الإسلامية في ماليزيا التي تعتمد بيع العينة، قد أسقطت شرط القبض والحيازة، مع أن الإمام الشافعي الذي يقلدونه في اعتماد العينة، اشترط القبض في كل مبيع..
فقد ذكر الدكتور محمد علي القري في تطبيق عقد العينة لدى البنوك في ماليزيا أن القبض في الأعيان التي يشتريها البنك من عميله لا يقع أبداً، وإنما تكون تلك الأصول في يد العميل يشتريها المصرف منه بمجرد إيجاب وقبول لا يترتب عليها توثيق للبيع لدى الجهات الرسمية ولا قبض المبيع.
وإنما يكتفي بالإيجاب والقبول، وقد برر أحد أعضاء الهيئة الشرعية ببنوك ماليزيا الإسلامية مثل ذلك بأن عمل البنك قائم على الثقة بين المصرف والعميل؛ ولذلك ليس هو ما يستدعي أكثر من الإيجاب والقبول لاطمئنان المصرف أن الأعيان موجودة عند البيع وهي بالحالة التي وصفها العميل.
كيف تتم العينة في ماليزيا؟
وتطبيق عملية العينة التي يتم اعتمادها في البنوك الإسلامية الماليزية كالآتي: يتقدم عميل المصرف إليه بطلب التمويل بمبلغ يحدده (100 مليون مثلاً) عندئذٍ سيشتري منه المصرف بالنقد أصلاً من الأصول التي يمتلكها العميل(مثل معدات عنده، أو العقار الذي يسكنه..الخ) بمبلغ التمويل (100 مليون) وينقده الثمن.
ثم يعيد المصرف بيع هذا الأصل إليه بالأجل بمبلغ يزيد عن ذلك بنسبة متفق عليها تمثل ربح المصرف (10% مثلاً) فيضحى الدين المتعلق بذمة هذا العميل هي 110 مليون. مستحقة الدفع (مثلاً) على أقساط متساوية لمدة خمس سنوات قيمة كل قسط 2 مليون و200 ألف.
وهذه صورة من صور العينة التي يذهب جماهير أهل العلم إلى تحريمها، غير أن الهيئات الشرعية لهذه البنوك تتذرع بالمذهب الشافعي بجواز ذلك كما سبق.
ولا أعلم أحدا من العلماء المعاصرين سوى أعضاء الهيئات السابقة ممن طالعت كتبهم وأبحاثهم يبيح عقد العينة على النحو المطبق في هذه البنوك.
وعلى هذا، فلا تصلح العينة أن تكون حلا مقبولا شرعا لمشكلة التمويل النقدي في البنوك الإسلامية.